مصير الدولة المصطنعة.. حرب انفراط أم طلاق مخملي؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 9 يناير 2014 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

أعادت أزمة أوكرانيا السياسية فتح باب النقاش فى مسألة انفراط الدول التى يكتشف سكانها أنهم عاجزون عن العيش المشترك. الواضح أن مسألة الانفراط صارت تفرض نفسها. واضح أيضا أن مرحلة فى الفكر السياسى وصلت إلى نهايتها بعد أن حققت هدفها، وأن مرحلة أخرى بمواصفات وأهداف مختلفة تكاد تبدأ، أو لعلها بدأت فعلا.

•••

مر التطور السياسى بفترة سادت خلالها أفكار واستراتيجيات تعلقت بضرورة الإسراع بتفتيت الإمبراطوريات العظمى. وقعت هذه الفترة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بانفراط إمبراطورية النمسا والمجر، ثم انفراط الإمبراطورية العثمانية ومن رحمها تأسست دول عربية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن رحم امبراطوريات أوروبا الغربية خرجت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى مجتمع الدول المستقلة عشرات الدول الأفريقية والآسيوية ودول فى أمريكا الوسطى والمحيط الهادى.

كان الاتحاد السوفييتى آخر الامبراطوريات التى دخلت عصر الانفراط. والجدير بالذكر أن الانفراط السوفييتى وقع فى أعقاب حرب فى أفغانستان ومظاهرات شملت عددا كبيرا من دول المجموعة الاشتراكية. بمعنى آخر وقع انفراط الاتحاد السوفييتى فى ظل أو بعد حالة من العنف كما حدث فى معظم حالات الانفراط.

الجديد فى ظاهرة الانفراط تكشف عنه أفكار وتجارب تحث الشعوب على تصحيح الأخطاء المترتبة على المراحل المبكرة التى ظهرت فيها الدول حديثة النشأة. وقد رأينا فى الآونة الأخيرة جهودا وأساليب مبتكرة للتمرد على دولة «الوضع القائم»، وتابعنا إجراءات، بعضها عنيف، لإسقاط هذه «الدولة» وإقامة أكثر من دولة محلها. هذا النوع من التفكير لم يكن فى سابق الأيام يجد دعما من جانب الدول المهيمنة، وبخاصة عندما انشغلت بتثبيت دعائم النظام الدولى ثنائى القطبية. وكان من بين هذه الدعائم مبدأ قدسية حدود الدول حديثة الاستقلال وفى صدارتها الدول الأفريقية والعربية.

كان المطلوب من أفريقيا عدم المساس بالحدود المصطنعة التى رسمتها الدول الاستعمارية لمستعمراتها الأفريقية، بل إنها جعلت عدم المساس بهذه الحدود مبدأ دوليا التزمته عواصم الدول الكبرى وقيادات الدول الأفريقية على حد سواء. وكان المطلوب من العرب احترام القرار البريطانى الفرنسى المشترك بتقسيم إرث الامبراطورية العثمانية فى العالم العربى، وإقامة دول تلتزم تقريبا الحدود التى سبق أن اعتمدتها الامبراطورية العثمانية لولاياتها وقضاءاتها فى المشرق العربى. كان ضروريا لضمان استقرار هذه الخريطة تثبيتها فى ميثاق إقليمى ودور تحملت مسئوليته جامعة الدول العربية، كمنظمة إقليمية تضم دولا ذات سيادة.

•••

بعد مرحلة استقرار غير متوازن، عدنا الآن لنناقش عواقب التخلى عن التزام الجميع بمبدأ عدم المساس بالحدود، سواء الحدود التى رسمتها قوى استعمارية آفلة، أو رسمتها نخب وجماعات محلية استشعرت فى وقت ما أن هناك ما يكفى من الوشائج بين الناس ما يسمح بإقامة دولة تحتفظ بحدود ثابتة ومستقرة. واضح لنا الآن أن عددا لا بأس به من عواصم الدول التى حرمت فى وقت من الأوقات المساس بحدود الدول التى خرجت من رحم امبراطوريات قديمة، لا يجد حرجا فى أن يجد التبرير المناسب لفكرة تعديل الحدود، أو تقسيم الدولة على شعبين أو ثلاثة فى حال لم تفلح الدولة التى اصطنعها المستعمر فى خلق الوشائج اللازمة لصهر هذه الشعوب فى أمة واحدة.

واضح لنا أيضا أن جماعات سكانية متزايدة العدد صارت تفصح عن رغبتها فى الانفصال وإقامة دول خاصة بها. تأكد بعضها أن الدولة القائمة لم تعوضها عن هوية اكتشفت أنها ناقصة، أو عن لغة خاصة بها صارت عزيزة عليها وتخشى أن تفقدها، أو عن دين أو مذهب تعتنقه ولكن لا تعترف به الدولة أو تفضل عليه دينا أو مذهبا آخر. تأكد بعض آخر أن ثروات فى أرضه راحت لخدمة ورفاهية شعب آخر أو جماعة أخرى، وأن الوظائف والمزايا الأعظم والأوفر تحصل عليها جماعة أو فئة هويتها من هوية الحاكم أو دينها من دينه أو لغتها من لغته.

•••

ما جدوى مبادئ تضعها الدول الكبرى باسم المجتمع الدولى وتفرضها على جماعات عرقية أو طائفية أو اجتماعية تشعر بالغبن والظلم الواقع عليها فى دول أقامها آخرون وفرضوا عليها الالتزام بشرائعها وحدودها. كان واضحا لكل من قرأ عن السودان أو زاره أو اقترب منه ان الدولة السودانية الشاسعة لن تبقى سالمة وموحدة طالما استمر أهل الجنوب وأهل الغرب وأهل الشرق يشعرون بأنهم مجبرون على تقديم فروض الطاعة والولاء لدولة لا تجسد أحلامهم ولا تلبى أو تعترف بأبسط مقومات وجودهم وهى الهوية، وبأول حقوقهم وهو الحق فى حياة كريمة فى بلد يتساوى فيه المواطنون. كان هذا الأمر واضحا أمامنا منذ ستين سنة خلت، والأوضح منه الآن هو ان انفصال الجنوب فتح شهية قبائله على التمرد ضد هيمنة القبيلة الأكبر وإقامة دويلات قبلية مستقلة.

بقدر وضوح الرؤية بالنسبة لمستقبل أقاليم السودان وشعوبه التى لا يمكن أن تتعايش سلميا فى إطار دولة «موحدة أو فيدرالية»، بقدر ما يتزايد عدد الذين يتوقعون، ان عاجلا أم آجلا، قيام دولة كردية تضم شمال العراق وشمال شرق سوريا وشمال غرب إيران وشرق تركيا. لن يقبل قادة الأكراد، تحت ضغط الرغبة الشعبية فى الرخاء والحرية، أن تذهب ثروات شعبهم لشعوب فى الجوار هم أنفسهم منقسمون ومتقاتلون.

يقول أهل اسكتلندا، أو غالبيتهم، إنهم لن يقبلوا باستمرار انضوائهم تحت راية المملكة المتحدة، التى كان لهم أكثر الفضل فى قيامها وفى توسعاتها الامبراطورية. من حقهم، أن يعود إليهم وإلى أجيالهم القادمة عائد الثروة النفطية من بحر الشمال، وأن يقرروا بأنفسهم ولأنفسهم إن كانت عضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى تلائمهم. ليس المهم أن تلائم شعوب إنجلترا وويلز وأيرلندا الشمالية وهم الأغلبية، المهم أن يكون للاسكتلنديين رأى، وأن يكون رأيهم فى علاقتهم بأوروبا مسموعا من خلال دولة تحمل اسمهم وتخصهم.

وهناك فى أقصى شرق أوروبا، يقف سكان أوكرانيا حائرين. يسألون، كما تعودوا ان يسألوا على امتداد قرون عديدة، من نحن؟ هل نحن أوروبيون، أم «روس سلافيون» أم بين بين؟ لا يوجد إجماع فى الإجابة عن هذا السؤال، لم توجد إجابة فى أى عصر، ولن توجد فى المستقبل المنظور. مازالت روسيا تعتبر كييف، عاصمة أوكرانيا، المصدر الأساسى لتراث روسيا وهويتها الأرثوذكسية، منذ كانت هناك فى قديم الزمان كونفيدرالية سلافية سقطت تحت أقدام المغول فى القرن الثالث عشر. ومازال الأوكرانيون يعيشون على ذكرى وآثار حرب الثلاثين عاما التى نشبت بين جيوش روسيا وبولندا وتركيا وفرنسا وفرسان القوزاق فى صراع على أراضى أوكرانيا الغنية، وانقسمت البلاد وقتها إلى جزء انضم للإمبراطورية الروسية وجزء إلى الامبراطورية النمساوية، وفى الجزء الخاضع لروسيا حرمت السلطات استخدام كلمة أوكرانيا، وجرى استبدالها بـ«روسيا الصغيرة».

قيل إن دبلوماسيا بريطانيا كتب فى عام 1918 عن الهوية الناقصة أو المفقودة فى أوكرانيا، يقول إنك إذا سألت فلاحا عاديا عن جنسيته أجابك أنه أرثوذكسى، وإذا سألته إن كان روسيا أو بولنديا أو أوكرانيا أجابك بأنه فلاح، وإذا سألته بأى لغة تفضل الحديث، أجابك أنه يتحدث فقط باللغة المحلية، أى بلغة القرية التى يعيش فيها.

لم تظهر أوكرانيا على خريطة رسمية إلا بعد سقوط الامبراطوريتين الروسية والنمساوية فى الحرب العالمية الأولى، وجاء استقلالها كدولة على أيدى الألمان قبل أن ينسحبوا فاحتلها البولنديون. وعندما خضعوا نهائيا لروسيا السوفييتية جرب جوزيف ستالين الجورجى الأصل الانتقام منهم ففرض عليهم فى عام 1922 نظام المزارع الجماعية لإذلالهم. وفى عام 1954 قرر خروشوف السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفييتى الأوكرانى الأصل تعويضهم فتنازل لهم عن إقليم شبه جزيرة القرم 1954.

يبقى حتى اليوم ولاء الشعب الأوكرانى موزعا بين روسيا والغرب، أو توخيا للدقة يجدر القول إن فى أوكرانيا ثلاثة شعوب، شعب فى الشرق وشعب فى الغرب، وشعب فى الوسط. الجدير بالملاحظة أن تصويتا جرى على مشروع قيام اتحاد اقتصادى مع روسيا، جاء فى نتيجته أن 64 ٪ من سكان شرق أوكرانيا صوتوا لصالح المشروع، و16 ٪ من سكان الغرب و29 ٪ من سكان الوسط. وفى استفتاء آخر صوت لصالح الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى 66 ٪ من سكان الغرب، و18 ٪ من سكان الشرق و23٪ من سكان الوسط. على ضوء هذا الحال، يجد كثير من المحللين صعوبة فى الإقرار بأن أوكرانيا دولة قابلة للحياة، فالشرق فيها شرق والغرب غرب، وكلاهما يؤكدان كل يوم أن مساراتهما متناقضة.

لا أستبعد مصيرا لأوكرانيا، ولجنوب السودان ودول فى إقليم الساحل الأفريقى، ودول فى المشرق العربى، يختلف عن المصير الذى ينتظر بريطانيا لو أصرت إسكتلندا على الانفصال. لا يجوز أن تستمر الأمم مشدودة إلى تجربة نجحت فى حالات وبشروط معينة وفشلت فى حالات أخرى حين غابت أو بدأت تغيب هذه الشروط. أقصى ما نتمناه، إن كان التغيير ضروريا وواقعا لا محالة، أن يستلهم تجربة انفراط تشيكوسلوفاكيا، حين وقع «الطلاق المخملى» بين تشيخيا وسلوفاكيا. وقع فى هدوء وسلام ولم ترقَ فى سبيله نقطة دماء واحدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved