سويسرا ولعبة «البينج بونج» فى قضية استرداد الأموال المهربة

سليمان عبدالمنعم
سليمان عبدالمنعم

آخر تحديث: الثلاثاء 9 فبراير 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

كتب الكثير فى قضية استرداد أموالنا المنهوبة فى الخارج. لهذا ليس الهدف من هذا المقال إعادة اختراع العجلة لكنه محاولةٌ لفهم ما أصاب العجلة التعيسة من خلل! والبداية أن نفهم كيف يفكر الآخرون بقدر ما يجب علينا مراجعة أنفسنا.

ليس خافيا أن الدول التى توجد فيها الأموال المهـربة هى دول مستفيدة بالطبع من بقاء هذه الأموال لديها والاعتقاد بغير ذلك لا يخلو من براءة. صحيحٌ أن سويسرا ودولا أخرى قامت بتجميد الأموال المطلوب استردادها لكن هذا (التجميد) لا يرتب بذاته وتلقائيا حقوقا مكتسبة برد هذا الأموال. بل ان هذه الدول قد تستفيد من هذا التجميد من خلال وقف سريان الفوائد على الأموال المجمدة. ولنلاحظ أن المدة المحددة لتجميد الأموال المهـربة إلى دول الاتحاد الأوروبى ستنتهى خلال شهور قليلة من الآن.

لا أحد يعرف على وجه التحديد كم الأموال المهربة التى أمكن بفضل حيل التمويه ووسائل تبييض الأموال إخفاءها عن الأعين والآذان لكن المؤكد أنها كبيرة، والمؤكد أيضا أن معظمها «ذهب مع الريح» ! وبحسب تقرير منظمة النزاهة الدولية لعام ٢٠١٣ بلغ حجم الأموال التى خرجت من مصر ستة مليارات دولار ونصف المليار فى عام ٢٠١١ فقط. وحين نتأمل تصريحات النائب العام السويسرى خلال زيارته الأخيرة للقاهرة نكتشف أن الرجل كان صريحا حين قال إنه سبق لسويسرا أن قدمت ثلاثين طلبا للسلطات المصرية للحصول على معلومات بشأن ملف الأموال المودعة لديهم. فى التصريح محاولة لإبراء الذمة وإيحاء بأن الجهات المختصة فى القاهرة تتحمل جزءا من مسئولية تأخير البت فى هذا الملف. لكن الرجل الذى برغم صراحته يبدو وكأنه يلعب «البينج بونج» يعود ليقول إننا سنقوم بتحليل الأحكام الصادرة من القضاء المصرى لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا وسيتم وفقا للقوانين السويسرية (!). ثم يخلص النائب العام السويسرى فيما يشبه النصيحة قائلا: إن الحل الأفضل لجميع الأطراف فى هذه القضية هو التفاوض بين السلطات المصرية وأصحاب الأموال المهـربة عبر محاميهم فى إطار التصالح بين الاثنين.


***
عن موقفنا القانونى فهو ما زال يصطدم بثلاث عقبات أساسية.

العقبة الأولى عدم توافق الأحكام الصادرة عن المحاكم المصرية مع المعايير الدولية للعدالة. من ناحيتنا كدولة صاحبة مصلحة ليس مجديا أن نشغل أنفسنا بسؤال هل اعتراض الدول المطلوب منها رد الأموال على أحكامنا القضائية هو اعتراض مصطنع سيئ النية أم هو اعتراض مبرر ومشروع. السؤال بالنسبة لنا يجب أن يكون ماذا نحن فاعلون لإزالة هذه الاعتراضات. هذا سؤال كان يجب علينا منذ البداية الانتباه إليه وما زال علينا أن نقدم عنه إجابة مقنعة ومرضية. وهنا أرجو ألا أثير غضب أو حساسية أحد حين أقول بكل الاحترام الواجب إن السجال الذى أثير أخيرا حول تصريحات مسجلة لشخصيات قضائية بشأن قناعته الشخصية ومواقفه السياسية من قضايا منظورة أمام القضاء، وسجالات أخرى على الشاكلة ذاتها، إضافة إلى أحكام قضائية أخرى كانت صدرت بالإعدام فى حق مئات من المتهمين عقب إجراءات محاكمة لم تستغرق فى مجملها فعليا سوى ساعات... أقول وأنا أحد العارفين بقدر القضاء المصرى إن الأصداء السلبية فى الخارج لهذه الأمور قد أسىء استغلالها ليس فقط من جانب الدول المطلوب منها رد الأموال وذلك للإيحاء بافتقار هذه الأحكام للمعايير الدولية للعدالة ولكن أيضا من جانب بعض المصريين الهاربين المطلوب استرداد أموالهم غير المشروعة أو تسليمهم إلى مصر.

فى كل الأحوال يتعين علينا إقناع العالم (وليس إقناع أنفسنا) بأن أحكامنا القضائية قد استوفت هذه المعايير. علينا أن نوثق طلبات استرداد الأموال أو تسليم الأشخاص بسوابق قضائية لصالحنا حدثت فى دول أخرى فى قضايا شبيهة بقضايانا. وهنا أيضا ما زلت أرى كما أشرت مرارا من قبل أن افتقادنا حتى اللحظة لتشريع وطنى للتعاون القضائى الدولى وتسليم المتهمين والمحكوم عليهم (كما الحال فى معظم دول العالم ومنها أكثرية الدول العربية) ما زال أمرا سلبيا وغير مبرر وغير مفهوم.

العقبة الثانية وتتعلق تحديدا بما تطلبه بعض الدول (كسويسرا مثلا) من ضرورة وجود صلة مباشرة بين الأموال المطلوب استردادها والجريمة المنسوبة إلى المتهم. هنا يجب التذكير بأنه من المسلم به قانونا أن الأموال غير المشروعة (نقود أو عقارات أو أسهم أو سندات أو غيرها) لا يلزم أن تكون هى الناتج المباشر من جريمة الفساد بل يكفى أن تكون من المتحصلات التى آلت من هذه الجريمة حتى لو أخذت أشكالا أخرى جديدة ومختلفة بفعل حيل التصرف والتمويه التى خضعت لها. وهناك سوابق قضائية عديدة بهذا المعنى تؤكدها أحكام القضاء السويسرى والفرنسى وبلدان أخرى كثيرة وذلك إعمالا لفكرة la subrogation réel .

والواقع أن إلحاح الدول المودع لديها الأموال المهـربة على اشتراط وجود صلة مباشرة بين الأموال وجرائم الفساد يجب إعادة تقييمه على ضوء ما تنص عليه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد نفسها، فالاتفاقية تجيز مصادرة ورد الأموال ليس فقط إذا كانت متحصلة مباشرة عن إحدى جرائم الفساد ولكن أيضا إذا كانت هذه الأموال (مرتبطة) بها. هذا يعنى بنصوص الاتفاقية ذاتها (المادة ٥٤ فقرة ١) أنه لا يلزم وجود الصلة السببية المباشرة بين الفساد والأموال المهـربة بل يكفى قيام صلة (الارتباط بينهما).

اللافت أن النائب العام السويسرى بدا وكأنه يعلق رد الأموال على شرط إثبات أنها متحصلة مباشرة عن جرائم الفساد بموجب حكم قضائى نهائى مع أنه يعلم جيدا أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التى صادقت عليها الدول الأوروبية بما فيها سويسرا وصادقت عليها مصر أيضا تجيز بوضوح طلب استرداد الأموال المهـربة بمجرد صدور قرار اتهام من الدولة صاحبة الحق فى الأموال وقبل أن يصدر حكم قضائى نهائى من محاكمها وذلك فى الحالات التى لا يمكن فيها ملاحقة الجانى بسبب الوفاة أو الهرب أو الغياب أو فى الحالات الأخرى المناسبة (المادة ٥٤ فقرة ١ ج). هذه مسألة يجب التركيز عليها لا سيما وأنها تتفق مع ما أعلنته المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان منذ عام ١٩٨٦ من أن مصادرة الأصول دون الاستناد إلى حكم بالإدانة أمر لا يتعارض مع مبدأ افتراض البراءة وحقوق الملكية الأساسية.

***
فى هذا السياق علينا الاعتراف بأن تردد الكثير من الدول الأوروبية فى الاستجابة لطلبات التسليم المصرية ليس منبت الصلة بما يثار من سوء معاملة المحتجزين والمحبوسين وما يتعرضون له فى أماكن الحجز والاعتقال، صحيحٌ أن الملاحقين أو المحتجزين فى جرائم مالية مثل الفساد ليسوا معنيين بهذه الأوضاع فى أماكن الحبس والسجون لكنهم لا يترددون فى إثارتها أمام سلطات الدول الأجنبية. هذا الواقع يدعونا إلى مراجعة أنفسنا والقضاء على هذه الممارسات التى لم ولن نحصد منها سوى الإساءة إلى أنفسنا وخسران قضايانا.

العقبة الثالثة هى ما يدفع به المتهمون المتواجدون فى الخارج أمام السلطات الأجنبية من أن هناك باعثا سياسيا وراء طلبات تسليمهم أو استرداد أموالهم المتحصلة عن الفساد. ليس سرا أن البعض (إن لم يكن الكل) يلجأ لهذه الحيلة لا سيما وأن الاتفاقيات الثنائية والعالمية الخاصة بالتسليم ومكافحة الفساد تجيز بالفعل رفض طلب التسليم إذا كان ثمة أسباب سياسية تحيط بطلبات التسليم. يقع علينا إذن عبء تفنيد ودحض مثل هذه الادعاءات، والأهم، وقبل ذلك، يقع علينا واجب الكف عن إدانة ثورة ٢٥ يناير لأن ذلك من شأنه أن يضعف دون أن ندرى مشروعية حقوقنا فى استرداد الأموال المهـربة فى الخارج. هذا طوق النجاة للهاربين المطلوب استرداد أموالهم أو تسليمهم للتذرع أمام المحاكم الأجنبية بالدافع السياسى لملاحقتهم.

كيف سيصدقنا العالم حين يخرج قضاة وإعلاميون ومثقفون ليتهموا ثورة يناير بأنها مؤامرة أجنبية فى الوقت الذى تطالب فيه الحكومة المصرية بأموال الذين تم إسقاطهم فى يناير ؟!

أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائى بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved