فرصتها الأخيرة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 9 مارس 2017 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

وقفت الأم ترقب فى حيرة الرصيف الآخر الذى تقع المدرسة الابتدائية على ناصيته، كانت الأمطار الغزيرة قد اختلطت كالعادة بتراب شوارع القرية فصنعت منها كتلا طينية كان أحيانا ما يلهو بها الأطفال ويتقاذفونها. قالت فى سرها: كبرت يا إبراهيم ولم أعد قادرة على حملك من رصيف لآخر حتى تدخل مدرستك كما أحب أنا وتحب أنت نظيفا مهندما، فماذا أنا فاعلة؟ كان طفلها يمسك بيدها يطوحها ذات اليمين وذات الشمال متعجلا العبور إلى الناحية الأخرى من الطريق حتى لا يفوته طابور الصباح. لم يبكِ إبراهيم كما يفعل جاره حسن ولا اختفى خلف المصطبة كما اعتاد جاره الآخر وهما يراوغان فى الذهاب إلى المدرسة بعد إجازة صيفية طويلة، على العكس من ذلك تماما فلأنه أصغر إخوته كان يروق له أن يحذو حذوهم ويتصرف وهو ابن الثامنة وكأنه شب عن الطوق، يجهز مريلته ونعليه فى المساء كما يفعلون، يحشر كتبه الدراسية فى حقيبته الجلدية كما يحشرون، حتى إذا عاد آخر النهار تكون قد امتلأت جعبته مثلهم بحكايا نصفها حقيقة ونصفها خيال يحكيها ويزجى بها فراغ المساء حين يهبط الظلام على القرية وتكون الثرثرة متعة سكانها الوحيدة.

***

اهتدت الأم إلى طريقة آمنة تصل بابنها إلى الرصيف الآخر من دون أن يغوص حذاؤه فى الوحل. دلفت إلى داخل المنزل وأتت بحذاء ابنها القديم وألبسته إياه وهو فى حيرة من أمره لا يدرى لما استبدلت أمه بحذائه الجديد اللامع حذاء قديما كالح اللون. طلبت من ابنها مهلة لثوان وحملت حذاءه الجديد ووضعته على الرصيف المقابل، ثم عادت إلى إبراهيم وعبرت معه الطريق وجلست على الأرض تلبسه حذاءه النظيف وتودع الآخر كيسا بلاستيكيا أسود انتظارا لتبدل الحذاءين مجددا فى رحلة العودة من المدرسة.
صار هذا الطقس اليومى ملازما للأم وصغيرها طيلة فصل الشتاء فما دخل مدرسته قط إلا وحذاؤه النظيف اللامع لم يمسسه سوء. وحفر هذا التقليد البديع أخدودا عميقا وحميما جدا من الذكريات فى ذهن الابن إلى الحد الذى كاد يختصر علاقته الممتدة بأمه فى مشهدين اثنين: مشهد عبوره الطريق محمولا على ظهر أمه ثم مشهد أمه وهى تفترش الأرض لتلبسه حذاءه النظيف. هى تفصيلة صغيرة جدا من عشرات التفاصيل التى توزعت على سنين حياته الثمانى والعشرين كانت له فيها أمه كل شىء، منذ أسلم الأب جفنيه لنعاس طويل صارت هى التى تعول وتنفق وأيضا هى التى تحتضن وتحنو. كانت تفهم نظرته وهو يشتهى باكو البسكويت الذى جاءت به لتبيعه فى كُشكها الخشبى ومن عائد مبيعاته تربى أولادها وبناتها السبع فلا تتورع عن أن تقدمه له وتخفف من شعوره بالذنب قائلة: فيه غيره كثير. والحقيقة أنه لم يكن فى كُشكها الكثير من البسكويت ولا من أى بضاعة أخرى لكن إبراهيم كان أولى. ينسى ما ينساه إبراهيم لكنه لا ينسى قصة الحذاء، يؤثر فيه جدا أنه لم ير أمه تسلك هذا السلوك مع أحد من إخوته من قبل، لأنه آخر العنقود ربما، لأنه تيتّم مبكرا ربما، لأنه الأحن عليها ربما، وربما لكل هذه الاعتبارات معا.
***
تهاجمه بشدة ذكرى الطريق الطينية والحذاء النظيف وهو مدعو لاتخاذ قرار خطير، لكن هل هو فعلا قرار خطير؟ مجرد منحة دراسية جاهد فى الحصول عليها لقضاء أربعة أشهر فى فرنسا لكنه حين فاز بها على كل أقرانه قفز أمام عينيه السؤال الكبير: هل يترك أمه؟ من بضع سنين تزوج الأخوة والأخوات وخلا البيت عليه هو وأمه فشرب من حنانها حتى ارتوى ونهلت من بره حتى طابت نفسا، تعد له إفطاره ويجهز لها غداءها، يحتسيان فى المساء كوبين من الشاى الثقيل وهما يستمعان إلى سورة الرحمن بصوت الشيخ محمد رفعت أو يشاهدان مسلسل الشهد والدموع المحبب إليها، يهرع إليها حين تداهمها النوبة الصدرية إياها فتختلط أنفاسهما شهيقا وزفيرا فإذا أعجزه أمرها سارعا إلى طبيب القرية، دائما هى وهو، تشكو له ويفضفض لها ويجلسان بعد صلاة التراويح فى أحد مقاهى المركز الذى لا يبعد كثيرا عن القرية، يأنس لفتاة تبر أهلها فمع أمه سيعيشان وسوف يستكين بين ذراعيها المنهكتين طفلهما الأول، فكيف يتركها ولمن يتركها؟
***
ما شاور أحدا من رفاقه إلا وهوَّن من مخاوفه، اتركها مع أخواتك قالوا له، وسائل التواصل الاجتماعى الحديث فيها الحل اقترحوا عليه، هى فرصتك الذهبية التى سعيت إليها ألحوا عليه وكرروا، ابن أمك أنت تندروا عليه ساخرين، هل هو ابن أمه؟ يستهجن استخدام التعبير فى مقام التصغير والتهوين فَلَو لم يكن ابنًا لأمه تكافح من أجله ومن أجل ستة آخرين لكان ابنًا ضالا لا مأوى له ولا نصير، ويتعجب كيف يقال عنه ابن أمه كما يوصف الأبناء المدللون بينما المسئولية صارت مشتركة والحِمل أصبح مقسوما على اثنين: ترى به ويطمئن بها، تتعكز عليه ويناله دعاؤها، تسأل عنه ويسأل عنها. جرت دموعه حيرة وقلقا وإشفاقا، هو لا يأمن عليها إلا نفسه فهل يلين لإلحاحها عليه بالسفر وهل يضعف أمام إغراءات الفرصة الذهبية؟
***
كما اعتاد فى كل أموره التى يلتبس فيها عليه الأمر قرر أن يصلى صلاة استخارة، هو يدارى بينه وبين نفسه أنها نصف استخارة فقراره المستقر عليه ألا يذهب ولعله يبحث فى صلاته عن شرعية لهذا القرار. وفِى الأخير قطع الشك باليقين، دخل غرفتها واستراح لانتظام صوت أنفاسها ثم خرج يكتب جوابا قصيرا هذا نصه: الأستاذ الدكتور فلان، أعتذر عن عدم قدرتى على الاستفادة من فرصة السفر إلى فرنسا لحاجة أمى إليّ ففرصى كثيرة بإذن الله أما أمى فأنا فرصتها الأخيرة، مع خالص الشكر والتقدير. ألقى على الأرض تلًا من الهموم كان يثقل كاهليه وتخفف من حمل لم يكن يحس أنه بهذه الوطأة حتى تفاجأ بوطأته، سمح للنعاس أن يداعب جفنيه فأوى إلى فراشه وراح فى سبات عميق.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved