تلك الهدنة فى أسوان

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 9 أبريل 2014 - 6:45 ص بتوقيت القاهرة

فى الاقتتال القبلى المروع بأكثر المناطق المصرية سلما ووداعة صورتان تلخصان المأساة كلها.

فى الصورة الأولى بدت جثث الضحايا الملقاة على عربة «كارو» فوق بعضها الآخر وثيقة إدانة كاملة للأسباب التى استدعت المجزرة وللأطراف التى تقاعست فى مواجهتها.

كان التقتيل عشوائيا على هوية الانتساب القبلى والترويع وسيلة لإثبات القوة والمكانة وانفلاتات السلاح والأعصاب تأخذ مداها ومدير الأمن يقول «لا نتدخل فى النزاعات القبلية».

كأن الأمن نفسه تحول إلى «قبيلة» تقف على الحياد فى نزاعات القبائل الأخرى وأصوات الأسلحة الآلية الكثيفة لا تزعجه وسقوط عشرات الضحايا خارج اختصاصه وحرق المتاجر وشل حركة السائحين فى قلب أسوان نفسها أمور لا شأن له بها.

وفى الصورة الثانية بدت الدولة وسيطا يضمن هدنة مؤقتة بين الطرفين المتقاتلين لمدة ثلاثة أيام، كل طرف جلس فى غرفة منفصلة لا يفاوض الآخر مباشرة والوسطاء يتولون التنقل بين الغرف وتسهيل صياغة اتفاقية الهدنة.

الصورة المحزنة تقارب فى آلياتها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية غير المباشرة التى اعتمدت فى اتصالات الطرفين قبل توقيع «معاهدة أوسلو» قرب منتصف التسعينيات.

لا توجد دولة تحترم نفسها فى العالم تقبل لعب دور الوسيط بين مواطنيها أو تتقبل أن تنطوى نصوص الهدنة على تهديد كل طرف بخرقها إن لم يلتزم الآخر ببنودها كاملة.

طرفا الهدنة أخذا عمليا رخصة من ممثلى الدولة ووسطائها بتجديد الاشتباكات بعد أن ينقضى وقتها المحدد أو أن يبادر أحدهما بخرقها قبل انتهاء موعدها إذا ما نسب للآخر أية انتهاكات.

الكلام كله عبثى ومهين لأية دولة والتصرف على هذا النحو غير المسبوق يمنح القانون إجازة ويحيل الدولة إلى التقاعد.

المصالحات ضرورية ولملمة الجراح مسألة اجتماعية قبل أن تكون أمنية غير أن الوسائل التى اتبعت مدمرة لمفهوم الدولة نفسه. فما الذى يمكن أن يحدث فيما لو خرقت الهدنة أو لم يتمكن الوسطاء من إجراء المصالحة قبل ثلاثة أيام؟

التصرفات احتذت ما هو معروف ومألوف من اجتماعات مع رءوس القبائل واستدعاء رجال دين للتحدث عن الفتنة وضرورة وأدها وتشكيل لجان للمصالحة بعد التهدئة دون أدنى إدراك أن الاقتتال القبلى هذه المرة يختلف عن أية اقتتالات سابقة، فمستويات التسليح مرعبة ودرجات العنف الانتقامى تجاوزت أى حد والدولة فى وضع ضعف غير مسبوق.

الوسائل التقليدية لا تصلح سوى لإدارة أزمات تقليدية، وما جرى فى أسوان أخطر من أن يعالج على نحو يفتقد أية رؤية سياسية لحجم الخطر أو انعكاساته على صورة الدولة فى لحظة تحول جوهرية فى بنية نظام حكمها ووسط صراعات إقليمية قد تجد مواطن أقدام جديدة.

لم تكن الحكومة مستعدة لتحمل مسئولية الموقف أو أن تتصرف على نحو يحفظ للدولة احترامها وهيبتها.

لم تتخذ ما هو لازم وضرورى من إجراءات أمنية وقانونية تهدئ من الفزع العام وتمنع سقوط ضحايا جدد.. وعندما وصل رئيسها المهندس «إبراهيم محلب» إلى موقع الأحداث الدامية كانت احتمالات تجدد الاشتباكات ماثلة وطلب فرض الطوارئ وحظر التجوال ملحا من أهالى المنطقة بلا استثناء. لكنه لم يصدر القرار فى توقيته وأفضى ذلك إلى فوضى مسلحة فى قلب المدينة باليوم التالى وسقوط ضحايا آخرين حتى وصلنا إلى «هدنة» مؤقتة برعاية الدولة وكما لم يحدث فى التاريخ المصرى كله.

افتقدت السياسات أية درجة من الاتساق، والمؤسسات المختلفة تعاملت مع الأزمة الدموية بصورة منفصلة تقريبا، فالمدارس أغلقت بقرار من المحافظ خشية تعريض التلاميذ لخطر تصفية الحسابات المتبادلة، والكليات الجامعية أخذت المنحى نفسه بقرار من إدارتها، والسكك الحديدية أوقفت حركة القطارات من وإلى أسوان دون أن يكون واضحا أن هذه الإجراءات اتخذت وفق خطة مشتركة تدرك ما خطواتها المقبلة؟

فى الإجراءات حالة تنبه أولوية لخطورة الموقف دون أن تمتد إلى إعلان قوة الدولة وحضورها، كأن «الطوارئ» لم توضع فى الدساتير لمثل هذه الحالات بالذات.

الدول تفرض حظر التجوال فى مواجهة الكوارث الطبيعية والإنسانية بلا تردد وتعبئ طاقاتها العسكرية والأمنية والسياسية لوقف أية احترابات وإنهاء المعاناة بأسرع وقت وأقل كلفة.

إعلان الطوارئ يعنى بالضبط إعلانا آخر بتعقب السلاح وإنفاذ القانون دون إغفال للتعقيدات القبلية فى المنطقة والعمل على تخفيض آثارها بالوسائل السياسية.

بمعنى آخر أن تكون الدولة الطرف الأقوى فى المعادلة كلها لا وسيطا بين طرفيها المتقاتلين.

بحسب الدستور فإن رئيس الجمهورية هو الذى يعلن حالة الطوارئ بعد أخذ رأى مجلس الوزراء، وهناك أسئلة معلقة: هل أوصته الحكومة بفرض الطوارئ فى أسوان؟.. أم رأت أنه يمكن تطويق الأزمة بالوسائل التقليدية؟.. ما الذى جرى بالضبط ما بين الحكومة والرئاسة؟

لم يكن هناك مركز سلطة يتحمل مسئولية القرار ولا تنسيقا جديا جرى فى إدارة الأزمة، والاجتماعات الرئاسية تلت إعلان الهدنة وقراراتها كانت أقرب إلى محاولة الإيحاء بأن هناك دولة تدير الأزمة المروعة.

أسوأ ما قد يحدث فى الأزمة وتعقيداتها تجاهل ملفاتها المرشحة للانفجار فى أى وقت بالمكان نفسه أو فى مكان آخر.

ملف السلاح هو الأخطر فى مجزرة أسوان، فنحن أمام ترسانات من أسلحة متقدمة جرى استخدامها، والأسلحة نفسها متوفرة فى مناطق أخرى قريبة، كما قد يجرى استخدامها فى عمليات إرهابية.

بحكم الموقع فإن ترسانات السلاح وجدت طريقها إلى أسوان عبر الحدود السودانية، اخذت قبائلها ما تطلبه ومرت بقيتها إلى المحافظات الأخرى.

الأسئلة الرئيسية هنا: كيف نحفظ أمن الحدود ونضيق الثغرات التى تسمح بتهريب السلاح على هذا النطاق الخطير؟.. وكيف نتعقب ما جرى تهريبه وتفكيك أية مجموعات أو خلايا حصلت عليه؟

لا أحد بوسعه أن يقدر أحجام الأسلحة المهربة لكنه يبدو من صدامات أسوان أنها تفوق أية تصورات مسبقة وأن مواجهة تبعاتها قد تطول والتهاون معها جريمة كبرى سوف تدفع مصر ثمنا فادحا لها.

حزم الدولة وأن تكون يدها قوية فى مواجهة السلاح ومكامنه لا يعنى إفراطا فى استخدام القوة واستعداء قطاعات من المواطنين بما قد يفكك الدعم المجتمعى الضرورى.

فكرة الدعم المجتمعى تفتح ملفا آخر على ذات الدرجة من الخطورة، فملف المحافظات النائية أمنها وتنميتها ومظالم أهلها تتصدر أوقات الأزمات قبل أن تعود إلى حالها من النسيان والتنكر والإهمال.

كعادة الحكومات المصرية المتعاقبة فإن المحافظات النائية موضوع أمنى قبل أى شىء آخر، المحافظون فيها أمنيون أو عسكريون سابقون، وتكليفهم الرئيسى أمن الحدود، ومع ذلك فإن إخفاقهم شبه كامل بالنظر إلى أحجام الأسلحة المهربة والمسئولية تتحملها معهم جهات سيادية.

فى أسوان بالذات فإن أزمة السياحة تضغط على أهلها، وتدخل فى أسباب انفلات الأعصاب المحبطة والمنهكة.

فى ضيق الرزق مشكلة وفى غياب التنمية مشكلة أخرى وفى الصمت على الأزمات المكتومة بين قبائلها مشكلة ثالثة وفى ترسانات السلاح مشكلة أخطر وفى غياب الدولة وأدوارها الرئيسية أصل المأساة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved