فى مسألة البحث عن التنظيم


باسم زكريا

آخر تحديث: الأربعاء 9 مايو 2012 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

لا يمكن أن ننكر أننا منذ إسقاط مبارك ونحن فى مربع رد الفعل، فمعظم المعارك التى خضناها منذ ذلك الحين كانت معارك استدرجتنا إليها السلطة استدراجا دون مبادرة منا، صحيح أننا خرجنا من كل معركة من تلك المعارك بانتصار أو مجموعة انتصارات لكن هذا لا يمنعنى من القول بأن استمرار هذا النمط لن يؤدى بالثوار إلا إلى الانفصال عن المعارك الحقيقية للمجتمع مما يعمق الفجوة بين المجتمع وبين الثورة فيفقد الثوار سلاحهم الرئيسى ــ المشاركة الجماهيرية ــ ويصيرون عزلا فى مواجهة السلطة عاجزين عن الدفع بالثورة نحو هدفها الحقيقى وهو تغيير العلاقة بين الدولة والمجتمع، أى إعادة توزيع الثروة والسلطة بين أبناء المجتمع.

 

هذا الاستدراج المتكرر للمعارك هو نتيجة تضافر عاملين أحدهما فى طبيعة السلطة المصرية والآخر فى طبيعة الثورة. أما عن الأول، فكلنا يعلم طبيعة جهاز الدولة المصرية خاصة فى العشر سنوات الأخيرة وكيف أن قدرته على احتواء تركيز السلطة واحتكار إنتاج خطابها كانت شبه منعدمة، فكانت السلطة موزعة على جماعات المصالح التى استطاعت أن تخترق المجتمع المصرى باستخدام أجهزة الدولة لكن دون الخضوع لإطارها القانونى، مما جعل لتلك الجماعات القدرة على ممارسة عملها حتى بعد إسقاط مبارك وبعد انتخاب مجلس للشعب، وهى قادرة على استمرار ممارسة عملها بشكل ما حتى إن نجح أحد المرشحين الرئاسيين الثوريين فى الوصول لكرسى الرئاسة. أما العامل الثانى وراء حصر الثورة فى مربع رد الفعل بشكل دائم فلابد للحديث عنه من أن نقسوا على أنفسنا قليلا ونمارس بعضا من النقد الذاتى وصوب أعيننا أننا نتحدث عن مستقبل نحن جميعا مسئولون عنه كل بقدر، فنفورنا الطفولى من التنظير والتنظيم ــ باعتبار الأول مضيعة للوقت واعتبار الثانى مرادفا للسلطوية ــ هو ما شل قدرتنا عن التحليل والتخطيط وحساب الخطوات قبل كل حركة نقوم بها، وهو نفور لم يعد له مكان الآن، فالجماهير التى سبقت النخب وقامت بالثورة تستحق أن نتعلم من حركتها فنبتكر أشكالا جديدة للتنظيم اللاسلطوى يرسو على تنظير نستثمر فيه أوقاتنا ليكون تنظيرا جديدا يبتعد عن الأفكار المدفونة بين دفات الكتب يفسر واقعا جديدا حيا ما زال يتشكل.

 

●●●

 

التنظيم الذى نحتاجه ليس تنظيما بالمعنى التقليدى، فهو ليس نظاما ساكنا بل هو عملية ديناميكية مستمرة من إدارة التفاعل المجتمعى، فهو ليس تنظيما أيديولوجيا يجعل من الحشد الموجه من أعلى على الوعى الزائف استراتيجيته، بل هو تنظيم اقتصادى اجتماعى يستنبت قياداته العضوية وبرامجه السياسية من أسفل، ويختار معاركه على هذا الأساس. وهو أيضا ليس تنظيما ثوريا تقليديا يجعل من المصنع نقطة انطلاقه الأساسية، فهذا النمط وإن كان يصلح لسياق تاريخى ما كان المصنع فيه هو مكان تجمع الجماهير فهو لم يعد ذلك النمط الذى يصلح لسياقنا التاريخى الحالى حيث حلت الماكينات مكان العمال وتغيرت أشكال الإنتاج ولم يعد الإنتاج الصناعى هو النمط الحاكم للاقتصاد الرأسمالى، لهذا فالتنظيم الثورى الذى نحتاجه ليس تنظيما اقتصاديا فحسب، بل هو تنظيم اقتصادى اجتماعى يستطيع أن يرى الرابط بين النشاط الاقتصادى وطبيعة تشكيل الحيز العام فى المناطق المختلفة، وأن يبدأ ذلك التنظيم لا من أماكن الإنتاج، بل من تلك المناطق والمساحات الجغرافية التى ساهمت الأنشطة الاقتصادية لسكانها فى خلق الحيز العام، وهى فى الغالب المناطق الفقيرة المزدحمة التى يحول فيها الفقر بين الناس وبين خصخصة الحيز العام بعكس حال المناطق التى تسكنها الطبقات الأعلى التى تم فيها خصخصة الحيز العام بشكل كبير.

 

فهو إذن تنظيم اقتصادى اجتماعى جغرافى، يدفع لتجذير الثورة اجتماعيا فى النطاقات الجغرافية التى شكلتها عوامل اقتصادية مشتركة فيعيد إنتاج خطاب الثورة من أسفل لأعلى ليقاوم خطاب السلطة القادم من أعلى لأسفل. وهو تنظيم لن يسعى لكسب الجماهير لأنه سيكون هو الجماهير. ولكى يقوم التنظيم بتلك المهمة لابد أن تكون على أجندته ثلاث مهام أساسية، أولاها خلق ــ أو بالأحرى اكتشاف ــ القيادات العضوية المنزرعة فى التربة الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع، وثانى تلك المهام هى خلق شبكة من البؤر الثورية على خلفية اقتصادية اجتماعية تخلق إحساسا بملكية حيز عام أكبر ــ يغنى المجتمع عن السلطة ــ وروحا للتضامن تبتلع خطاب السلطة الذى يعتمد بالأساس على التفرقة بين المجتمع على خلفية تزييف الوعى، أما ثالث المهام فهى البناء على تلك الشبكة الثورية وبلورة الخطاب الثورى ليأخذ شكل أجندة اقتصادية سياسية ومن ثم إيجاد صيغة استراتيجية لا مركزية للتواصل والتحرك بين المجموعات الثورية، فبدلا من أن تستدرج إلى معارك السلطة تخلق هى معاركها التى تدفع فيها بأجندة الثورة الاقتصادية السياسية إلى الأمام تمهيدا لتفكيك السلطة بالكامل.

 

●●●

 

أما ما لا يمكن أن يكون على أجندة ذلك التنظيم فهو خلق كتلة صلبة تدعى أفضلية معرفية، وبالتالى تدعى لنفسها ما تظنه حق القيادة التسلطية على الجماهير. فالتنظيم الذى نحتاجه هو تنظيم يهدف أولا إلى تجذير الثورة اجتماعيا عن طريق تحصين المجتمع ضد خطاب السلطة، وإعادة إنتاج خطاب الثورة من المجتمع ومن ثم بلورته فى أجندة اقتصادية سياسية يضغط بها المجتمع على الدولة، وتظل تلك العلاقة الجدلية بين المجتمع والدولة قائمة نحو درجات أعلى من الانعتاق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved