والآن (احتفالية فلسطين للأدب.. فى غزة) من أين أبدأ؟

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 9 مايو 2012 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

ممكن أبدأ من التعجب الذى ارتسم على وجوه كل من قابلناهم من ممثلى السلطة، فى نقاط التفتيش على الطريق من القاهرة إلى رفح، كلما أجبنا على أسئلتهم حول من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ بأننا مجموعة من الكتاب والفنانين المصريين والعرب، ذاهبين إلى غزة لإقامة مهرجان ثقافى.

 

أو ممكن أبدأ من التباس المشاعر الذى أصابنى حين خرجنا من القاهرة ولمحت، على جانب الطريق، لافتة كبيرة من لافتات المرور الزرقاء، المخطوطة باللون الأبيض، تعلن أننا على طريق يؤدى إلى «الإسماعيلية /العريش /فلسطين». عادى كده. وكأننا لم نضطر أن نتقدم بطلبات، مرفقة بصور جوازات السفر، إلى وزارة الخارجية، التى اضطرت بدورها للتنسيق مع «جهات أخرى»، أصابتنا بالقلق حين تأخرت فى إصدار التصاريح التى يرونها لازمة،  فاضطررنا للقيام بضغوط إعلامية، لا نعلم إن كانت هى التى استحثت الـ«جهات» على استصدار التصاريح أم أن الجهات كانت ستصدرها بدونها. غريب بعد هذا أن ترى اسم ذلك المكان البعيـيـيـيـيـد إجرائيا، واضحا معلنا على لافتة مرور. عادى.

 

أو أبدأ بالدخول إلى مدينة غزة والبحث فى نفسى عن أى شعور بالغربة.. واستحالة أن أجده. مدينة عربية، وربما أكثر المدن العربية التى زرتها قربا من الـ«مصرية». وكأنك دخلت المنصورة، مثلا. فيما عدا الظلام؛ فغزة، كما يعلم الجميع تعانى من نقص حاد فى الوقود: أنوار الشوارع مطفأة، وأنوار البيوت مخفضة، وعند محطات البنزين ترى السيارات متراصة، يمتد طابورها إلى الشارع، تنتظر الوقود. وفى قاعة الدرس فى جامعة القدس ــ القاعة التى احتشدت بأكثر من مائة طالبة، جئن ليلتقين بخالد الخميسى، وطارق حمدان، وبى، ينقطع التيار الكهربائى على فترات منتظمة؛ كل عشر دقائق تقريبا. ينقطع التيار الكهربائى فينطفئ النور. والغريب أن البنت التى تتحدث تستمر فى الحديث، عادى، ويوقد البعض كشافات الهواتف المحمولة. وبعد دقائق نشكو من الحر الشديد، فيفتحوا لنا النوافذ، والنوافذ مطلة على حوش داخلى فيدخل إلينا ضجيج الشباب المنتظر خارج قاعات الدرس. وفجأة يضئ النور وتبدأ المراوح فى الدوران فنُطفئ الكشافات ونغلق النوافذ ونستمر، وبعد عشر دقائق تنقطع الكهرباء..  وهكذا. عشر دقائق فى عشر دقائق.  ونتعلم من الطالبات كيف نستمر؛ كيف نأخذ الأمر بشكل طبيعى ونستمر؛ إن كان أحدنا يقرأ نصا يجد يدا تمتد بكشاف المحمول لتضئ له الصفحة، وغير هذا نستمع ونستجيب. والاستماع سهل والاستجابة أسهل، فالبنات جميلات: بنات ذكية، جسورة، مهذبة، قارئة؛ يستمعن ويعلقن ويسألن، وأسئلتهن تركض، تطير، من الأدب إلى السياسة، من النص إلى العالم، من المجرد إلى المتجسد. ونستمر أربع ساعات. لم أر فى حياتى طلبة مستعدين، راغبين، فى أن يستمروا فى حوار ونقاش لمدة أربع ساعات، تنتهى لأن القاعة مطلوبة وليس لأنهم اكتفوا.

 

الزملاء الذين ذهبوا ليقيموا ورش عمل فى المدارس يقولون نفس الكلام: التوقد مع البشاشة مع الاهتمام. عايزين يتعلموا، وعايزين يتكلموا. يشكروننا لأننا أتينا إليهم، ونجيب ــ بصدق ــ أننا نأخذ منهم أكثر مما نعطيهم.

 

ينطفئ الاتقاد قليلا فى خيمة المعتصمات؛ زوجات وأمهات وأخوات الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية مضربات عن الطعام تضامنا مع رجالهن. ولماذا يضرب الرجال؟ يضربون مطالبين بأن يعاملوا معاملة أسرى الحرب. يعنى لا يطلبون إعادة محاكمة أو إطلاق سراح؛ فقط يضربون مطالبين بأن يسمح لهم بالزيارات، وبالكتب، وبالتعليم ــ أى يطالبون بأن يقضوا سنين السجن فى ظروف آدمية. صور الرجال المضربين تغطى كل شبر فى المكان: مؤبد، مؤبد، مؤبد. شابة أخذوا عريسها وهى فى الشهر الثالث من الحمل الأول ففقدت الجنين. تتحسر عليه. سيدة لم تر ابنها منذ خمسة أعوام. سيدة تَحرّر ابنها فتبنت سجينا شابا لا أم له. حكايات فى قلب حكايات. والضابط ــ أحد الضباط ــ فى معبر رفح، يقول وقد صعب عليه مرواحى ومجيئى عشر مرات عبر صالة الرحيل «أنا بانصحك تاخدى الوفد بتاعك ده وترجعوا». «نرجع فين؟» «ترجعوا مصر. الناس دى مش محتاجة حاجة». «مش فاهمة». «الناس دى مرتاحة جدا. هم مش محتاجين حاجة. المعونة بتروح لهم لحد عندهم»، «هو حضرتك دخلت غزة؟» «مانا باشوفهم هنا. واحد صارف ألفين جنيه عشان ينزل مصر. يبقى محتاج إيه؟» «بس الناس دى محاصرة. مسجونة يعنى »، «باقول لحضرتك هم مش محتاجين حاجة. عموما إنت حرة »

 

فعلا، أنا حرة، بس هم محتاجين؛ هم كمان محتاجين حرية، ومحتاجين تواصل. يشكروننا ويشكروننا على المجئ. يخجلوننا. يقولون إن الحصار، ذلك الاحتلال المختبئ المناور، يحول غزة إلى قضية إنسانية بدلا من قضية سياسية، وأن المعونة تصلهم ــ بحساب ــ والمتضامنون الأجانب يأتون إليهم. لكن من يفهم القضية قليل، ولذا فالزوار عرب شئ آخر. والمصريون شئ بعد الآخر. مصر هى الأم، يقولون، ونحن أخوة. وصار لنا تقريبا لم يزرنا اخواننا. 

 

يفدون أمما أمما إلى مركز رشاد الشوا الثقافى، حيث قاعة المسرح التى تسع ثلاثة آلاف والتى امتلأت عن آخرها بالشباب والشابات والأمهات والأطفال والرجال. وإعلام القطاع كله هنا. وحين يُفتح الستار عن فرقة إسكندريللا يهب الجميع واقفا وتدوى القاعة بالتصفيق والصفير. يحبونهم ويحفظون أغانيهم ويطالبون بأغنية وراء أغنية. يصفقون لاسم فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم. يهتفون للتحرير. يصفقون تصفيق الأولتراس ويهتفون لمصر. لا يكادون يصدقون أنهم يسمعون اسكندريللا ــ بأشخاصهم ــ هنا فى غزة. وبدورهم يلهمون اسكندريللا فتبدع الفرقة وتقدم عرضا جبارا.

 

المفارقات عجيبة: الحكومات والإجراءات كلها عن الفصل والتمييز (افترض الكثيرون من العاملين فى المعبر أننا «مرَحَّلين»، وإلا لماذا نذهب إلى غزة؟) والعقبات والتعجب. أما الناس ـ سواء نحن أم هم ــ فنتعامل على أننا أهل. نحن أهل؛ التاريخ والجغرافيا واللغة والأغانى والطرب واحدة؛ فى بهو الفندق، من غرفة العاملين فى الواحدة صباحا يعتب علينا عبد الحليم: صافينى مرة وجافينى مرة وماتنسانيش كده بالمرة. البحر واحد والرمال والصخور والكراسى البلاستيك والشمسيات التعبانة قليلا وساندوتشات الطعمية (أو الفلافل) وعليها الشيبس ــ لن أقول كلها واحدة، فهى ليست واحدة بالضبط، هى أجمل وأثرى من واحدة، لأنها تنويعات على أساس واحد. ولكن، على بعد ثلاثة أميال فى البحر ترى الكشافات فى الليل تضوى. قررت إسرائيل أن غزة تكفيها أن يصطاد صياوها السمك فى حدود ثلاثة أميال من الشاطئ ومن يخرج عن الأميال الثلاثة يخطفونه من البحر. ونحن الآن فى موسم السردين، والسردين يتواجد على بعد ستة أميال، فكل يوم يخطف الإسرائيليون مركبا خرجت عن الحود المسموح بها، الحدود التى يرسمونها بهذا الكشاف.

 

المفارقات العجيبة: نحو ستة آلاف مبنى دمرها القصف الإسرائيلى، حوالى ألف وأربعمائة شهيد، الأسرى فى السجون، والحصار الذى يهدف إلى القتل البطىء ــ وفى ظل كل هذا الموت هناك كم من الحياة المتدفقة المندفعة. الشباب والصبايا يتفجرون حيوية ودفئا، وكنت أعنى ما قلت: أخذنا أكثر كثيرا مما أعطينا. أخذنا من حيويتهم، وطاقتهم، وإقبالهم على الحياة وتمسكهم بها. خرجنا جميعا من حفل اسكندريللا متفجرين بالحماسة وبالأمل وبالإصرار: يمكن للدنيا أن تكون أجمل كثيرا.

 

الرحلة سهلة، والطريق واسع. اسمه «طريق صلاح الدين»، ويمتد من القاهرة إلى القدس مرورا برفح وغزة. وأهل غزة يسمونه الطريق السريع.  فلنستعمله ــ عادى كده على الأقل الآن إلى غزة. المعبر معبر بين أشقاء، وغزة كانت المصيف المفضل للمصريين وقت أجدادنا القدماء مازالت مسكنا لأهلنا الذين يحبوننا، ويرحبون بنا، وينتظروننا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved