عولمة العدوان

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأربعاء 9 يونيو 2010 - 11:15 ص بتوقيت القاهرة

 لم يكتف الصهاينة بمسلسل الجرائم التى أقيمت بها الدولة العبرية، وجيشها الذى تطلق عليه اسم «جيش الدفاع»، رغم أن المرة الوحيدة التى اضطر فيها للدفاع فى أكتوبر 1973 منى بهزيمة منكرة،.. فإذا بها تضيف إليها حلقة جديدة فى موقع يخرج قانونا عن نطاق أى حدود يمكن أن تحلم بامتداد اغتصابها للأراضى إليها.

ويبدو أنها ضاقت ذرعا بالحروب التى تشنها فى محيطها الإقليمى، واعتبرتها لا تليق بعصر العولمة، فأطلقت مسلسلا جديدا على النطاق العالمى. ولما كانت غزة محدودة المساحة فإنها أضافت إلى عمليات الإبادة التى أخذت أشكالا مختلفة متراوحة بين القتل السريع والقتل البطىء لأهلها، عمليات فيما وراء البحار وفى عرض البحار.

ففى العام الماضى شنت غارة فى أراضى السودان على ما قيل إنها قافلة تنقل أسلحة فى طريقها إلى غزة. ومنذ بضعة أسابيع تخفّى عملاؤها وراء جنسيات لدول تعتبرها صديقة، ليجهزوا على محمود مبحوح لموقعه فى حركة المقاومة فى غزة. وفى الحادى والثلاثين من مايو الماضى، تجاوزت فى عدوانها المسافات إلى الجنسيات، لا فرق بين عدو وصديق، تأكيدا لحصارها على غزة.

لست هنا بصدد إعادة سرد وقائع باتت معروفة للجميع، ولكنى أسعى للحصول على إجابة عن سؤال لابد أنه دار بخلد كل من سمع بما يسميه السيد أوباما بالحادث، وهو لماذا قامت ربيبة سادة العولمة بفعلتها تلك؟ وهل أملت الصدف والملابسات تلك الصيغة المأساوية التى انتهت بها مهمة غاية فى الإنسانية، أم أنها دبرتها وأخرجتها على تلك الصورة لغرض فى نفس المدعو «نتن يا هوه»؟ دعونا نتقصى الاحتمالات الممكنة لنتبين أيهما هو الأرجح.

ولنبدأ بالأبسط وأكثرها إفراطا فى افتراض حسن النية، وأن سوء حظ المشرف على عملية السطو المسلح على السفينة التركية مافى مرمرة (وليس سوء حظ ركابها، فلا عبرة فى القاموس العبرى لحياة من عادى الإسرائيليين من البشر) هو الذى كان وراء اتخاذ الأحداث الذى سارت فيه.

يقال (والعهدة على الراوى) إنه جرى تدريب قوات مخصصة للعملية الدامية على كيفية الحيلولة دون تحقيق أسطول الحرية هدفه بإنهاء حصار غزة، تحت قيادة من يعرف باسم الجنرال «الصينى» أليعيزر مروم، قائد سلاح البحرية الإسرائيلى، الذى آلى على نفسه أن يقود العملية بشخصه. والمعروف أن ذلك الصينى (ومن الصين ما قتل) كان قد تم تصويره وهو يرتاد ناديا ليليا تعرض فيه راقصات عرى فى حيفا يعرف باسم «جو جو».

وامتنع رئيس الأركان، جابى أشكنازى، عن إقالته من الجيش بسبب ملفه النظيف والتأييد الذى يحظى به فى الجيش ولدى القيادة السياسية. وأراد أن يمنحه الفرصة ليثبت جدارته ويقوم بتبييض تلك النقطة السوداء فى تاريخه، ليعود إلى ميناء أشدود ظافرا مظفرا بصيده الثمين من أعالى البحار.

ومن غير الواضح ما إذا كانت المجزرة ضمن تدريبات القوات المعتدية. ولكن يبدو أن الجنرال الصينى لم يكن قد أفاق بعد من حالة السكر التى أعمته فى ذلك الملهى، فكان ما كان. والمفروض وفقا لهذه الرواية أن يُلقى اللوم عليه ويجرى تلبيسه تهمة سوء التصرف. إلا أن «نتن يا هوه» أعلن بصريح العبارة تأييده الكامل لما قامت به عصاباته، وأشاد بقدرتها على صيانة سيادة إسرائيل.

علينا إذن أن نسقط هذا البديل من حسابنا، وأن نفترض أن التدريبات بنيت على تصور أن مجرد هبوط الكوماندوز من السماء مشهرين أسلحتهم الفتاكة على قوم عزّل سوف يجعل هؤلاء يخرون سجدا من الرعب، فيستسلمون بلا مقاومة، فالحياة فى الأسر أفضل من فقدان حياة يعز على صاحبها فقدانها، غير مدركين أن من وصل من صدق العزيمة إلى الإقدام على التصدى لمثل هذه المهمة السامية، يملك من الصفات والأخلاق ما لم ولن يدركه من جعل الصهيونية دينا له وصنما يعبده. ورغم كل الأكاذيب التى لفقها المجرمون حول ملابسات المعركة، لم يكن فى وسعهم اتهام المتضامنين بأن كان بيد أى منهم ولو مسدس لعب أطفال.

وملأوا العالم بصور لعصى يخطف بريقها الأبصار، وكأن اللمعان فى الظلام يتحول إلى أشعة ليزر تقصف بأرواح من يشاء حظه العاثر أن تصيبه، فيذود عن نفسه ليس بضرب الأيدى الحاملة لها، بل بإفراغ الرصاص فى أدمغة حامليها، على أن يصل عدد الرصاصات ثلاثين رصاصة من باب التأكد والدفاع عن النفس. وهنا تفتق الذهن عن استخدام الأكذوبة الكبرى.. الدفاع عن النفس. وتلقف من شاءت الأقدار أن يكون نائبا للرئيس أوباما، المدعو جو بايدن، أن يشيد بهذه الأكذوبة.

ولا يستغرب على من صفعه «نتن يا هوه» على أم رأسه بالمستوطنات عندما وطئت قدماه أرض إسرائيل، ووصل هوان النفس به إلى حد قبول الصفعة مبتسما، ابتغاء ضمان أسياده الصهاينة لمستقبله، ولو رغم أنف الشعب الأمريكى. وبهذه المناسبة نقترح تعديل القانون الجنائية الخاصة بالسطو المسلح، واعتبار أن اللص الذى يردى ضحيته قتيلا هو فى حالة دفاع عن النفس.

إن هذا البديل يفترض لصحته أمرين قد يبدوان مقبولين: الأول أن التدريبات الإسرائيلية كانت منقوصة فلم تحسب لكل الاحتمالات حسابها، فاضطر القائمون بالعملية للتصرف بوحى الخاطر، الأمر الذى يدل على مدى الغباء الذى يتمتع به قادة العصابات الإسرائيلية.

والثانى أن الجبن تملك الأفراد المدججين بالسلاح من هول ما قد يصيبهم من عصى ومقاعد، فأفرغوا الرصاص، مستخدمين ما اعتبره الخطاب المصرى الرسمى، وخطابات المضللين فى باقى أنحاء العالم، «قوة مفرطة» بدلا من «القوة الحنون المتهاودة». غير أن قبول هذا التصور يعفى القيادة السياسية من المسئولية، لكون الأمر الذى تصدره العملية لا بد أن يتضمن الحدود التى تحرص على ألا تمس بالمصلحة العليا.

فالأمر لم يكن تدريبا يترك القرار فيه للقيادات العسكرية، بل إنه يتعرض لصميم القواعد التى تحرص القيادة السياسية على عدم المساس بها. وهكذا يقودنا هذا البديل إلى بديل ثالث وهو أن يكون ما حدث مقصودا من جانب رئاسة الدولة العبرية، ويصبح السؤال هو ماهية المقصود.

تنطلق الإجابة عن هذا السؤال من بحث عن الإجابة عن سؤال ذى علاقة، لماذا قتْل الأتراك، حتى ولو كانوا «أمريكان» من أصل تركى؟ باعتقادى (استنتاجا وليس من واقع أدلة أمتلكها) أنه لم يكن القصد فقط هو إرهاب الحركة العالمية المنادية بإنهاء حصار غزة، بل رغبة إسرائيل فى إعادة تركيا إلى ما وراء خط أحمر هو سيادتها المطلقة على كامل الشرق الأوسط. لقد تعددت التجاوزات التركية بدءا من تعنيف أردوجان لبيريز فى لقاء دولى، وتعامل بحدة مع إهانة السفير التركى، وصولا إلى تضييق الخناق على محاولة إسرائيل التلاعب بالورقة الإيرانية لتكسب ود الغرب وترهب الجيران العرب، بإدخالها البرازيل فى اتفاق يمنح إيران طوقا للنجاة مما يبيته التحالف الغربى. وهكذا هددت أحلام إسرائيل بتسيد المنطقة عند وصول المفاوضات الجارية إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية، وأضعفت من الأحلام التى بناها ليبرمان فى أمريكا اللاتينية.

وظنت إسرائيل أن تركيا سترضخ متذللة لأنها بحاجة إلى استمرار اتفاقياتهما، لا سيما العسكرية. إن هذا أكبر دليل على أن ما قد يتضمنه أى تطبيع مستقبل من علاقات تبادل مع الصهاينة، سوف يصبح سيفا مسلطا على رقاب الأطراف الأخرى من منطلق الدفاع عن النفس يجعل الآخرين بحاجة إليها تفوق كثيرا حاجتها لهم..

والمصادفة التى جعلت التوقيت يحول دون إتمام لقاء النتن مع أوباما أنقذت الأخير الذى كان بوسعه أن يكسب الكثير من التنديد بالعملية وتجنب مساندة إسرائيل. كما أنها أنقذت مبارك من ادعاء المعدداتية (وفقا لاصطلاح استخدمه الأستاذ عماد الدين حسين فى مقال بـ«الشروق») بأنه أعطى الضوء الأخضر فى لقاء شرم الشيخ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved