كل الشواطئ العربية تحت الحصار الإسرائيلى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 9 يونيو 2010 - 9:41 ص بتوقيت القاهرة

 كشفت المذبحة المنظمة التى ارتكبتها الوحدات الخاصة وقوات المظليين فى الجيش الإسرائيلى وبأوامر مباشرة من وزير الدفاع إيهود باراك مع مباركة علنية من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ضد قافلة «الحرية لغزة»، العديد من الحقائق الثابتة برغم حرص أهل النظام العربى على طمسها أو تمويهها.

أولى هذه الحقائق ــ أن الحصار الإسرائيلى يمتد، عمليا، من حول الوطن العربى الكبير من أدناه إلى أقصاه، ولا يقتصر على غزة باعتبارها «الساحل الفلسطينى» الوحيد. بعض هذا الحصار بالأمر المباشر، وبعضه الآخر بتحاشى إغضاب إسرائيل و«إحراج» الإدارة الأمريكية، وبالتالى خسارة المساعدات والتغطية على عورات النظام العربى وقصوره بالدعم السياسى.

وهناك حوادث مشهودة قامت فيها البحرية الإسرائيلية، كطليعة للأساطيل الحربية الأمريكية، بمطاردة مكشوفة لسفن تجارية متجهة إلى موانئ سورية، فى البحر الأبيض المتوسط، بذريعة «الاشتباه» فى أنها تحمل سلاحا من كوريا الشمالية..

كذلك فان إسرائيل تجاهر بأنها باتت تحكم سيطرتها على البحر الأحمر كله وحتى باب المندب.. وفى الأيام القليلة الماضية شيعت دوائر المخابرات الإسرائيلية ان «بعض» غواصاتها باتت هى «الحارس» الفعلى لبحر العرب، عند مدخل الخليج العربى، وبذريعة محاصرة الأنشطة النووية لإيران والاستعداد لضربها.. نيابة عن النظام العربى ولمصلحته.

وسبق أن نشرت أخبار عن مطاردات تولتها زوارق حربية إسرائيلية فى البحر الأحمر لسفن متعددة الجنسية بذريعة أنها تعمل فى تهريب السلاح إلى غزة، عبر سيناء، وكان التبرير ان إسرائيل تقدم هذه «الخدمة» لمصر.

لم يعد البحر الأحمر، كما توهم العرب ذات يوم «بحيرة عربية» بدءا من قناة السويس التى تربطه بالمتوسط وانتهاء بمضيق باب المندب، على ما تمكنت مصر من فرضه وبالتعاون مع الدول العربية والأفريقية المطلة عليه ــ عشية حرب ــ العبور المجيدة فى خريف 1973..

الواقع الآن على العكس من ذلك تماما، فلقد نجحت إسرائيل بفضل معاهدات الصلح مع كل من مصر والأردن (خليج العقبة) وبفضل إغراءاتها ونفوذها وإرهابها لبعض الدول الأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، فى «مصادرة» هذا الممر المائى الحيوى والذى تتوزع دول عربية عدة المساحة الأكبر منه (مصر، الأردن، السعودية، جيبوتى، الصومال، اليمن).

ثانية هذه الحقائق ــ إن العرب قد خسروا صديقا كاد أن يكون شقيقا: جزيرة قبرص.. وذات يوم كانت هذه الجزيرة تحتل موقعها على «خريطة الوطن السورى» كما تصوره واحد من الأحزاب التاريخية فى المشرق العربى، الحزب السورى القومى الاجتماعى.

كذلك فان العرب عموما، ومصر بشكل أساسى، وسوريا بدور استثنائى لقرب الجزيرة من شواطئها، قد دعموا المجهود الوطنى بقيادة المطران مكاريوس، لتحرير قبرص من الاستعمار البريطانى.. بل وهم قد دعموا وحدتها برغم اعتراض تركيا، وان كان الأمر الواقع قد فرض تقسيمها إلى دولتين: إحداهما ذات اللسان اليونانى التى يعترف بها العالم، والثانية من مسلميها الناطقين باللغة التركية، وهذه لا تعترف بها إلا تركيا، لقد بدل المسئولون القبارصة موقفهم كليا.. فبعدما سمحوا لقافلتين صغيرتين قصدتا، قبل شهور، غزة بشحنتين من المؤن والأدوية ولعب الأطفال، فلقد رفضوا استقبال قافلة «الحرية لغزة»، فى الأسبوع الماضى.

ومع انه من السهل التبرير بإرجاعه إلا أن معظم قاصدى غزة هم من الأتراك والسفينة الكبرى فيها ترفع العلم التركى، إلا أن ذلك لا ينفى «التحول» الذى طرأ على الموقف التركى نتيجة ضغوط إسرائيلية مباشرة معززة بالاعتراض الأمريكى.

ثالث هذه الحقائق ــ مع الاختلاف فى الأسباب، علينا ألا ننسى أن الشواطئ اللبنانية تحت حصار دولى معلن، تتولاه ألمانيا، بموجب القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولى، فى أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان فى تموز ــ يوليو 2006، وبذريعة «منع تهريب السلاح إلى المقاومة فى لبنان»..

وهو سلاح من شأنه أن يخرج من الميدان المائتى رأس نووى والقبة الفولاذية وصواريخ باتريوت وطائرات الأف 16 وغيرها مما تحويه الترسانة الحربية ــ التى تتباهى بها إسرائيل وهى تفاخر بأنها أقوى قوة فى منطقة الشرق الأوسط جميعا والخامسة بين القوى العسكرية فى العالم!

لقد خسرت إسرائيل كثيرا عبر حربها الليلية ضد بواخر مدنية تقل متطوعين من جنسيات مختلفة، وجهتها غزة، وبقصد كسر الحصار الوحشى على المليون ونصف المليون من أهاليها، بالنساء والأطفال والشيوخ والعجزة، باللاجئين للمرة الثالثة ممن أخرجتهم إسرائيل من أرضهم مرة أولى ثم من ديار لجوئهم داخل وطنهم، إلى غزة.

خسرت إسرائيل التأييد الغربى المفتوح، واضطر العديد من حلفائها التاريخيين فى أوروبا الغربية، ــ وحتى فى استراليا، إضافة إلى بعض أوروبا الشرقية إلى الاعتراض على سياستها، كما خسرت التغطية الأمريكية المطلقة لأى جريمة ترتكبها بحق الشعب الفلسطينى (أو بحق لبنان، أو باعتداءاتها التى تكررت أكثر من مرة على سوريا).. صارت واشنطن تتذمر وتتأفف وتشكو نتنياهو إلى ليبرمان!

لكن أهل النظام العربى قد عوضوا إسرائيل بعض خسائرها السياسية حين اكتفوا ببيانات الشجب والاستنكار، ثم أحالوا «شكواهم» إلى مجلس الأمن الدولى، متناسين أن فلسطين جميعا، وغزة على وجه الخصوص، قضية عربية لن يفيدها العالم كله إذا كان أهلها قد قرروا التخلى عنها والتنصل من مسئوليتهم فى الدفاع عنها وحمايتها وتولى مهمة فك الحصار عنها.

إن الاجتماعات الطارئة التى تبادر إلى عقدها جامعة الدول العربية تنتهى فاعليتها قبل انعقادها وعبر مشاورات ومساومات وتعهدات بعدم طرح مشاريع قرارات جدية وحاسمة قد تحرج «الصديق الأكبر» فى الإدارة الأمريكية، وقد «تستفز» إسرائيل التى صار البعض ينظر إليها وكأنها «حليف ممتاز» يسرته المقادير لمواجهة «الهلال الشيعى» ممثلا بالغزو الإيرانى..

وضمن هذا السياق الذى بات معتمدا، جاء الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب فى «عرينهم» بالقاهرة، والذى شجرت الخلافات بداية حول موعده ثم حول مشروع القرار الذى سوف يتخذ، وضرورة مراعاة «الصديق الأكبر» وعدم إحراجه، وضرورة الابتعاد عن استفزاز إسرائيل فى لحظة جنونها العسكرى،

والأخطر: عدم تمكين تركيا، ومن خلفها إيران، باستثمار هذه «الحرب الإسرائيلية» فى المياه الدولية، غير بعيد عن الشواطئ العربية، لمصالحها، وإعادة الاعتبار للحكومة المقالة فى غزة، بما يحرج «السلطة» فى رام الله فى لحظة دقيقة جدا: إذ إن لرئيس هذه السلطة التى لا سلطة لها موعدا مع الرئيس الأمريكى بعد أيام.. وكيف يذهب إذا ما تم توريطه فى موقف قوى ضد إسرائيل بكل نفوذها داخل الإدارة الأمريكية والكونجرس. وأضاف بعض الناصحين من أهل النظام العربى: علينا مراعاة الوضع الحساس للرئيس الأمريكى الأسمر، فهو مهدد بأن يخسر الأغلبية فى الكونجرس، عبر الانتخابات التى ستجرى فى الخريف، ولا بد أن ندعمه فى معركته، ولو ببعض التنازلات، فغزة ليست ــ فى نهاية المطاف ــ أغلى من موقفه المتعاطف والمتفهم والداعم لمجموعنا!

لقد خرجت شعوب العالم إلى الشوارع، فى الغرب قبل الشرق، تلوح بأعلام فلسطين، وترمى حكومة إسرائيل بما تستحق من نعوت أقلها العنصرية، ودولة القتلة والسفاحين، دولة القرصنة، والدولة المارقة، الدولة الخارجة على القانون الدولى، وحوش المستوطنين.. إلخ

تجاوز الأمر بالنسبة لشعوب العالم كل ما يتصل بمن يحكم غزة وبأى شعارات، وكل الوقائع المخزية عن صراع «السلطتين».

فرضت الحقيقة الأصلية صورتها الدامغة: هناك شعب تعداده بالملايين يشرده الاحتلال الإسرائيلى، ولا يكتفى بإخضاع الفلسطينيين داخل وطنهم للحكم العسكرى وحصار التجويع، وسلب أرضهم بالقوة ليزرع فيها المزيد من وحوش المستوطنين، بل انه يمنع عن مليون ونصف المليون من أبناء هذا الشعب المحاصرين فى غزة، بتواطؤ دولى مفضوح يشارك فيه النظام العربى بشراسة، الغذاء والأدوية والكتب ولعب الأطفال والحليب.. الخ.

لقد انتهت الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة، عبر غارتها الدموية على قافلة الحرية، بغير ما تشتهى، وعلى غير ما كان يتمنى أهل النظام العربى..

لقد خسرت إسرائيل تركيا كحليف تاريخى، استمر يساندها ويتعاون معها عسكريا وسياسيا واقتصاديا منذ بداية الخمسينيات.. وهى تسببت بالقرصنة التى أسقطت تسعة من المتطوعين الأتراك، وتجاهل التحذيرات التركية، فى أن تتحول إلى «خصم» للحكومة التركية و«عدو» للشعب التركى.

ثم إن هذه الحرب العنصرية التى تواصل إسرائيل شنها على شعب فلسطين قد أعادت تجميع هذا الشعب المقسم قهرا وعنوة والموزع نصفه فى ديار الشتات. أعادت غزة إلى فلسطين، وفتحت الباب لتواصل يرجى أن يكون قريبا بين «السلطتين»، وتحت رعاية تركية تعزز ما تيسر من الجهد العربى فى هذا المجال.

الأخطر: أن هذه الحرب التى أكدت الوحشية فى النظام العنصرى الإسرائيلى قد سرّعت فى إعادة فلسطين القضية إلى وجدان العالم، وأعادت الشعوب إلى الساحات دعما لحق شعبها المشروع فى دولة له فوق «بعض» أرضه. حتى المعترفون بإسرائيل لا يستطيعون إنكار حقيقة وحدة الشعب الفلسطينى. ووحدة القضية تسقط الحدود الوهمية بين الفلسطينيين فى مختلف مواقع وجودهم: فى الضفة أو فى غزة أو فى ديار الشتات.

إن الفلسطينيين فى طريق العودة لان يكونوا شعبا واحدا.. اللهم إذا استمر أهل النظام العربى، ومن ضمنهم أصحاب السلطة تحت الاحتلال، فى منعهم، حتى لا تتجرأ عليهم شعوبهم لأسباب أخرى لا يمكن حصرها وتعدادها.
رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved