وماذا استمر من خطايا السادات ومبارك؟!

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 9 أغسطس 2018 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

لا تكتمل قصة فشل الحكم الوطنى فى منطقتنا العربية عموما، وفى مصر خصوصا التى كانت أولى الدول بالنجاة منها، دون استخلاص أوجه الفشل التى استحدثت فى عهدى الرئيسين أنور السادات، وحسنى مبارك، بوصفهما استمرارا لنظام يوليو 1952، من حيث بنية النظام، وطريقة صنع السياسات، واتخاذ القرارات، واستمداد شرعية السلطة من «دائرة انتخابية فعلية واحدة».

 

وسوف نركز على أوجه الفشل التى استمرت من بعدهما، وأوصلت مصر إلى أزمتها المصيرية الراهنة، وهى أزمة متعددة الجوانب، تلخصها عبارة أشلاء دولة، أو شبه الدولة، الشهيرة، دون أن يعنى ذلك أن كلا العهدين لم يقدما أشياء إيجابية، ومهمة.

 

فالرئيس السادات مثلا قاد انتصار أكتوبر، وقضى على أسطورة ضللت العرب والمصريين كثيرا، وهى أنه لا نهاية للصراع العربى الإسرائيلى إلا بالقضاء (المسلح) على إسرائيل، ومع كل عيوب الانفتاح الاقتصادى، فإن مبدأ فك عزلة الاقتصاد المصرى عن العالم بكل ما يحدث فيه من ثورات تكنولوجية، وإدارية هو مبدأ محمود ومطلوب، وكذلك مبدأ مشاركة القطاع الخاص فى التنمية، بالطبع دون فساد واستغلال، ودون تحيز ضد القطاع العام، كما كان ينبغى أن يكون الوضع، كذلك فقد قضى السادات على نظام الحزب الواحد، رغم أن التعددية بقيت مقيدة، ومقموعة أحيانا، كذلك من أهم إنجازات السادات وقف تعذيب الخصوم السياسيين فى المعتقلات، والنص فى الدستور على اعتباره جريمة لا تسقط بالتقادم.

 

لكن السادات الذى أنجز ما سبق، تورط وورط مصر معه فى مشكلات ضخمة استعصت على التذليل حتى يومنا هذا، ومن ثم ساهمت فى صنع ظاهرة «أشلاء الدولة».

 

أولى تلك المشكلات تحالفه مع «الإسلام السياسى المسلح» وإقحامه الدين فى صراعه مع اليسار القومى والماركسى، وتشجيعه عودة تنظيمات هذا التيار لاستخدام العنف فى الداخل، مفترضا أنه سيكون ضد «اليساريين فقط»، حتى خر هو نفسه صريع هذا العنف، والأخطر أن الرجل اضطلع بدور قيادى فى تحويل «الإسلام السياسى» إلى تنظيم دولى مقاتل بدءا من «الجهاد الأفغانى ضد السوفييت»، وبذلك امتلك التنظيم خبرات التجنيد والتدريب والإمداد والاتصال والقتال على مستوى العالم، وقد كان من قبل مجرد تنظيم سياسى على المستوى الدولى، مع ميل بعض عناصره إلى استخدام العنف على مستويات محلية، فى بعض الأماكن، وفى بعض الأحيان، وهكذا تكونت، وامتدت ظاهرة الارهاب الدولى الإسلامى، وتحولت إلى «فاعل» مؤثر وخطر فى العلاقات الدولية.

 

وكان من العواقب الوبيلة لهذا التحالف على مصر تفجر المسألة الطائفية بدرجة تهدد الوحدة الوطنية ومن مواريث السادات الضارة أيضا ما يسمى رسميا بالانفتاح الاستهلاكى مقرونا بمستوى عالٍ من الفساد الإدارى والسياسى والاقتصادى، أملا فى تكوين طبقة رأسمالية جديدة بعد أن قضت الحقبة الناصرية على الرأسمالية الوطنية، لكن الرأسماليين الجدد لم ينشغلوا بالتصنيع والتنمية الحقيقية، بقدر ما انشغلوا بالصفقات التجارية، سريعة الربح، وبوسائل فاسدة غالبا، كما انشغلوا دائما وأبدا بوضع فائض ثرواتهم فى الخارج، إما تهريبا، وإما استثمارا.

 

وترافق مع هذه السلبيات، تحيز واضح، بلغ حد العداء للقطاع العام الصناعى على وجه الخصوص، واتباع سياسات تؤدى إلى إفلاسه، ويبدو هنا أن تلك كانت نصيحة أمريكية، تستهدف إضعاف الطبقة العاملة المصرية، باعتبارها الطبقة الحاضنة للفكر اليسارى.

 

كذلك فمن مواريث الحقبة الساداتية التى أضعفت مصر، بناؤه للعلاقات «الاستراتيجية» مع الولايات المتحدة على أساس شديد الاختلال، فى غير صالح البلاد، وهو ما انعكس أيضا فى صورة اختلال دائم فى موازين القوى الإقليمية الشاملة لمصلحة إسرائيل، وعلى حساب مصر، دون أن يعنى ذلك أننا ضد التسوية السلمية بين مصر وإسرائيل، أو ضد التسوية السلمية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية.

 

فلم يكن من الضرورى ولا من المصلحة مثلا أن تنخرط مصر فى الاستراتيجية الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتى فى كل مكان فى العالم، وليس فى أفغانستان فحسب، فقد انغمسنا فى مقاتلة النفوذ السوفيتى مثلا فى أنجولا، وإثيوبيا، واليمن الجنوبية، وتحالفنا من أجل ذلك مع أكثر الحكام فسادا وعداء لشعوبهم مثل موبوتو فى الكونغو، وشاه إيران، وغيرهم، ولم يكن من الضرورى ولا من المصلحة تسليم الأمريكيين أسرار الأسلحة السوفيتية التى حاربنا وانتصرنا بها فى أكتوبر 1973، ولم يكن هناك لزوم للترحيب بتغلغل النفوذ الأمريكى فى جميع وجوه الحياة المصرية، بما فى ذلك تأمين رئيس الجمهورية نفسه، كذلك لم يكن محتما أن يكون من شروط السلام مع إسرائيل قبول المعادلة الأمريكية ببقاء الدولة اليهودية متفوقة عسكريا على الدول العربية مجتمعة، وليس على مصر فقط، وكما كتبنا هنا من قبل فقد نفى الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر الذى رعى مفاوضات واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية أنه تعهد للسادات بتسليح مصر بمستوى تسليح إسرائيل، وذلك فى اجتماع مع زعماء الجالية المصرية فى الولايات المتحدة، وكان السادات قد ادعى ذلك فى حديثه إلى هؤلاء الزعماء، حتى لا يعترف بأن أهم شروط السلام غير المكتوبة هى استمرار ميزان القوة فى مصلحة إسرائيل، وهو ما أكده لى شخصيا المرحوم الدكتور بطرس غالى، بقوله إن مثل هذه الشروط تفهم، ولا تكتب.

 

بهذه المواريث وغيرها، تسلم حسنى مبارك مسئولية الرئاسة، ولم يحاول الرجل التخلص منها، أو السعى إلى حيازة الوسائل التى تحد من أضرارها، بل إنه وبعد رفع شعار الانفتاح الانتاجى بدلا من الانفتاح الاستهلاكى، عادت الأمور سيرتها الأولى، مضافا إليها تفاقم المديونية قرب نهاية الثمانينيات، حتى أوشكت مصر أن تدخل فى وصاية «نادى باريس» للدول المدينة، لولا تنازل دول عربية خليجية عن بعض ديونها، ثم إسقاط الديون الأمريكية مكافأة لمشاركة القوات المصرية فى حرب تحرير الكويت.

 

على أن من أخطر ما صنعه حسنى مبارك وخلفه من مواريث كان هو مواصلة تفكيك القطاع العام الصناعى بالخصخصة «الفاسدة»، ووضع قوانين تؤدى فى النهاية إلى تفكيك مؤسسات الدولة من داخلها لمصلحة السلطوية الفردية، بحيث تلغى تماما الضمانات القانونية والعرفية المستقرة لحماية المرءوسين، وتتركز كل قرارات الترقى، أو انهاء الخدمة، وتوزيع الاختصاصات والمزايا النقدية فى يد رئيس المؤسسة الفرد وحده نزولا إلى المستويات الأدنى من «الرئاسات»، مما لم تسلم منه أية مؤسسة أو أى قطاع فى الدولة المصرية.

 

وقد أدى هذا الخلل السياسى والإدارى، مع الفساد المالى والسلطوى، مقرونين بتكتيكات تجميد أو ترحيل المشكلات، وطول مدة بقاء مبارك فى السلطة إلى تحول النظام السياسى كله إلى نموذج متكامل من حكم الأوليجاركية، أى الأقلية ذات الامتيازات المالية والسياسية، أو مايمكن أن يسمى بتعبير آخر حكم الطغمة، التى ان لم تجد ما تنهبه أو تحتكره من عوائد الخصخصة، أو الاتجار فى ديون البلاد، أو التواطؤ لاغلاق صناعات بعينها، ومقاومة التوسع الزراعى فى محاصيل بعينها من أجل الاستيراد، فإنها تتجه إلى النهب الريعى من خلال الاتجار فى أراضى الدولة، والثروة المعدنية، والبترولية.

 

لكن يبقى أن أخطر ما استحدثة حكم حسنى مبارك من مفاهيم وسياسات، وأكثرها إثما وتنافرا مع فكرة الدولة ذاتها هو الترويج لمفهوم أن الشعب عبء على الدولة، وأنه سبب المشكلات، فهو أول من قال «هاجيب لكم منين»؟.. ولم تكن هذه مجرد أقوال تطلق على عواهنها، أو مفاهيم تروج لاستهلاك الوقت، ولكنها كانت عقيدة راسخة، انبثقت منها سياسات محددة، فقد تخلت الدولة تدريجيا عن الإنفاق الكافى لتحسين وضمان جودة التعليم، والبحث العلمى، والصحة، والنقل العام، كما انسحبت تماما من الاستثمار الصناعى، والتوسع الزراعى، اكتفاء ببعض مشروعات البنية التحتية التى نفذت فى السنوات العشر الأولى من رئاسة مبارك، وأهملت مرافق تقليدية بالغة الأهمية لمصر ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مثل مرففق الرى، ومرفق السكك الحديدية.

 

وتبلغ المأساة ذروتها، عندما يتبين أن الأموال وجدت فيما بعد، ولكن فى حسابات فى البنوك الخارجية.
فى ختام هذه السلسلة من المقالات حول فشل تجربة الحكم الوطنى فى المنطقة العربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى الآن، أى طوال قرن من الزمان، مع التركيز على حقبة حكم الضباط الوطنيين، أود أن ألفت الانتباه إلى أن الغرض هو الفهم، لأن أحدا لن يصنع المستقبل الأفضل، ما لم يفهم ماذا جرى فى الماضى السيئ، ولماذا جرى؟ وكيف يمكن تجنب ذلك الذى جرى، وأوصلنا إلى ما نحن فيه من فشل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved