حكاية ثقافة ماتت

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 9 سبتمبر 2010 - 9:43 ص بتوقيت القاهرة

 يتنادون لعقد مؤتمر للمثقفين يناقش حال الثقافة ومستقبلها فى بلادنا. ويتنادى آخرون لعقد مؤتمر مستقل. يخشون أن ينتهى مؤتمر الحكوميين إلى توصيات أو قرارات تعمق حال الانحدار فى ثقافتنا وتعجل بموتها. لا تعنينى تفاصيل الخلاف الناشب بين هؤلاء وأولئك بقدر ما يعنينى أوجه الاختلاف فى رؤية كل فريق لمستقبل هذه الثقافة ومدى استعداد هذه الأمة وبخاصة نخبها المثقفة لتقبل ثقافات بديلة هى بالفعل معروضة عليهم، وجارٍ الآن الترويج لها. أتوقع مثل كثيرين أن نسمع فى أحد المؤتمرين أصواتا تحذر من خطورة الوضع الذى تدهورت إليه معظم مكونات الثقافة المصرية. فوق أن الثقافات تنتعش وتذبل وتتآكل بل وتفنى. ونعرف أيضا أن الثقافات تصعد وتهبط مع صعود الأمم وهبوطها وتفنى إن انفرط عقد الأمة التى تحملها. وعندما تموت الثقافة يفقد الناس معنى وجودهم، وإن هم فقدوا معنى وجودهم ماتت الأمة.


تذكرت وأنا أقرأ عن الخلافات بين المثقفين حول عقد مؤتمر للثقافة المصرية أننى قرأت منذ سنوات كتابا صدر فى أمريكا وتعليقات عليه، وكتبت عنه وقتها فى صحيفة الدستور القاهرية تحت عنوان قصة شعب ماتت ثقافته، وأود أن أنتهز فرصة النقاش الدائر حول أسباب انهيار الثقافة المصرية لأستأذن الأستاذ إبراهيم عيسى فى أن أقتبس أفكارا وردت فى المقالات التى تفضل ونشرها لى. كان الكتاب بعنوان «الأمل الراديكالى» ونبهتنى إليه كعادتها منذ أن تعرفت عليها مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس. ويحكى الكتاب والعرض الذى نشرته المجلة تفاصيل عن قصة موت ثقافة كما رواها شيخ معمر ينتمى إلى قبيلة الغراب، وهى إحدى قبائل شعب من شعوب الهنود الحمر التى عاشت فى الأمريكتين قبل وصول المستعمرين الأوروبيين وقاومتهم قدر استطاعتها.


تبدأ قصة موت ثقافة شعب الغراب بقرار اتخذته حكومة الولايات المتحدة يقضى بحرمان رجال هذه القبيلة من ممارسة الصيد، مهنتهم الوحيدة التى ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ونقلهم بالقوة ليعيشوا على أرض بعيدة عن أرضهم. أرض لا يعيش فيها طير أو حيوان يغرى أفراد القبيلة للعودة إلى ممارسة الصيد. كان خبراء واشنطن يعرفون أنك إذا حرمت شعبا ورث مهنة من ممارستها فأنت تفرض عليه التخلى عن تقاليد معينة تتعلق بالزواج والإنجاب وتطلب منه التنكر لأخلاق وقيم وتراث والالتزام بأخلاق وقيم و«بدع» جديدة


يصف الشيخ حالة شعبه وهو يعيش آخر أيام ثقافته فى كلمات معدودة ولكن عميقة المعنى. قال «عندما رحل الجاموس.. وقعت قلوب شعبى على الأرض.. ولم يتمكن الشعب من رفعها.. وبعد ذلك لم يحدث شىء».. توقفت طويلا أمام عبارة «وبعدها لم يحدث شىء». هل يقصد الشيخ أن الناس وقد كادت تفقد ثقافتها وتراها تموت أمام أعينها أصابها الانحلال والاكتئاب فلم تعد تقوى على فعل شىء، أم أصابها الشعور بانعدام القيمة والجدوى. لقد تعمدت حكومة الرجل الأبيض فى واشنطن حرمان هذا الشعب مثلما حرمت من قبله شعوبا هندية أخرى من الشىء الوحيد الذى كان يتميز به ويفخر ويعيش من أجله، وهو منظومته «الثقافية».
يحكى الشيخ عن بلاده قبل أن يقرر الرجل الأبيض قتل ثقافتها فيقول: «هناك على الحدود كانت تقف العصى مغروسة فى الأرض، كل عصاة منها تمثل فردا من أفراد العدو وقع قتيلا أو حيوانا جرى صيده. هناك عند آخر صف فى صفوف العصيان المغروسة كانت حدودنا، وكان يتعين على الشعب فردا فردا التضحية بالروح والدم لحماية هذه العصى ومنع الغرباء من انتزاعها وتقليص عددها. وبناء على الأوامر الفيدرالية الصادرة من واشنطن توقف الصيد. وعندما توقف الصيد توقف الالتزام بالأرض وبالقيم والأخلاق المرتبطة بمهنة الصيد واهتز إيمان الناس بآلهتهم. اختفت الاحتفالات بالنصر حين امتنع الشعب عن حماية حدوده وأرضه وجواميسه، واختفت حين توقف الشعب عن الخروج إلى الحدود فى المناسبات الدينية والاجتماعية ليحصى كباره وصغاره العصى التى أضيفت بين موسمين فى منطقة الحدود. يخرج الشعب عن بكرة أبيه ليطمئن على أن أرضه اتسعت ولم تنكمش. كانت العصى الجديدة دليل ازدهار ثقافة شعب الغراب ورضاء الآلهة. نفذت القبيلة أوامر حكومة الرجل الأبيض.. فلا صيد ولا مقاومة ولا عصى جديدة وسقطت على الأرض العصى الموروثة، غابت الرغبة فى التضحية. اكتشف الناس أن لا شىء بعد انفراط الثقافة يستحق التضحية.. ولا شىء يحدث يستحق الفخر به.. الرياح تقصف العصى.. والحدود تتآكل.


عدت بالذاكرة، وأنا اقرأ العرض ثم الكتاب، إلى أيام الغزو الإسبانى حين شنت على شعوب أمريكا الوسطى والجنوبية واحدة من أبشع حروب الإبادة فى تاريخ الإنسانية، ولم تتحرك أمم الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية لتتحد وتدافع عن شعوب أخرى من الهنود الحمر تتعرض للإبادة. أبيد ملايين الناس، وبعد عقود ليست كثيرة وصل أوروبيون آخرون وشنوا حروب إبادة أخرى.. وبعدها.. «لم يحدث شىء يذكر». حتى هؤلاء الذين أفلتوا من الإبادة.. عاشوا على هامش حياة غير حياتهم وثقافة غير ثقافته.


<<<
يتفق عارض الكتاب مع مؤلفه على أن الفرد فى قبيلة الغراب الذى حرمته واشنطن من الخروج إلى الصيد اكتشف بين ليلة وضحاها أنه لم يعد يصلح كزوج أو أب، لم يعد يعرف كيف يتعامل مع امرأته وأولاده، بعد أن نزعوا سلاحه وحرموه من مهنته.. انزوى جانبا كل فرد فى القبيلة ليسأل نفسه «ما قيمة الحياة لإنسان فقد معنى وجوده». يقول شارل تايلور فى عرضه للكتاب إنه من خلال بحث طويل قام به عرف أن الشعوب حين تموت ثقافتها أو تقترب من نهايتها «يمتنع أطفالها.. عن الذهاب إلى المدارس وتنتشر الخلاعة ولعب الميسر»، وينقل عن امرأة من قبيلة ماتت ثقافتها قولها «أحيا حياة لا أفهمها».


وجدت فى قصة قبيلة الغراب ما يذكرنى ببعض حال أمتنا. المغزى وراء القصة التى يرويها الكتاب هو أن الجهد الذى قامت به الحكومة الفيدرالية فى واشنطن كان يمكن أن يضيع هباء إذا لم يرافقه جهد مضاعف لتغيير أكثر المفاهيم الموروثة. ويضرب المؤلف وعارض الكتاب المثل بالشجاعة، خاصة أن الشجاعة كانت جوهر ثقافة شعب الغراب. وبالتالى يصبح تغيير معناها ومضمونها شرطا ضروريا لنجاح عملية نقل قبيلة الغراب من الأرض التى عاشت فوقها لقرون إلى أرض أخرى. بمعنى آخر لا بد من أن تتوافر لدى الناس شجاعة ولكن بمضمون غير مضمونها الذى ترعرع فى ثقافة الصيد والدفاع عن القبيلة ضد عدوان مسلح. ولما كانت الشجاعة تقوم أساسا على الإيمان بشىء ما اقترح المؤلف إقناع أى شعب يمر بتجربة شعب الغراب بأن يتحول هدف هذا الإيمان إلى إيمان بحضارة الرجل الأبيض وأنها الأفضل والأعظم، وهى الباقية والأخريات إلى زوال. الشجاعة المطلوبة فى هذه الحالة هى القبول بالأمر الواقع والاستسلام له وللثقافة الأقوى المهيمنة، باعتبار أن التسليم بسمو الرجل الأبيض وبحقه فى الهيمنة والاستعداد للاندماج فى ثقافته شجاعة لا تقل عن شجاعة رجال القبيلة عندما كانوا يمارسون الصيد ويحصنون حدود قبيلتهم. يخلص الكتاب والعرض معا إلى أن ما فعله شيخ القبيلة هو الشجاعة بعينها، إذ إنه عندما شعر أن ثقافة شعبه تموت وشعبه ينهار بعد أن دب فيه اليأس وفقد الرغبة فى الحياة قرر أن يقود شعبه نحو القبول بكل ما تأمره به حكومة واشنطن، ويقبل هو شخصيا أن تعتبره واشنطن عميلا لها أو وسيطا لدى قبيلة الغراب والقبائل الأخرى.


يخلص جوناثان لير مؤلف كتاب «الأمل الراديكالى» إلى أنه كان أولى بقبيلة الغراب وقبائل أخرى أن تتحالف مع حكومة الرجل الأبيض ضد القبائل التى اختارت بديل المقاومة. كانت ستخسر ثقافتها، أى تخسر نفسها، ولكن تكون قد كسبت الاستقرار والسلام.


<<<
يقول الشيخ الوقور فى نهاية روايته عن موت ثقافة شعب الغراب: «لقد توصلنا إلى قرارنا ليس لأننا كنا نحب الرجل الأبيض الذى كان فى ذلك الوقت يطارد قبائل أخرى ويضيق عليها وعلى قبيلتنا الخناق، وليس لأن قبيلة الغراب كانت تكره شعوب وقبائل السيوكس والشيين والاواباهوى، ولكن لأننا، ببساطة، رأينا فى قرار التعاون مع الرجل الأبيض السبيل الوحيد لإنقاذ بلادنا الجميلة».


الملفت أن الشيخ أطلق صفة «بلادنا الجميلة» على الأراضى التى نقلته إليها مع قبيلته حكومة الرجل الأبيض، وهى أراض لا زرع فيها ولا ضرع، يقود عليها شعبا ماتت ثقافته ومنتهى أمله ترخيص بإقامة كازينو للقمار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved