عن النموذج الديمقراطى من خلال تظاهرة النفايات

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 9 سبتمبر 2015 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تابع المواطنون العرب فى سائر ديارهم كما فى المغتربات، الحراك الشعبى الذى تفجر عنه تظاهرات غضب فى شوارع بيروت شارك فيها آلاف من المواطنين.

كان « الصاعق» فيها موضوع «النفايات» الذى توسع ليشمل جوانب المأزق السياسى الذى يعيشه هذا الوطن الصغير، فى ظل عجز فاضح للطبقة السياسية الحاكمة «وأحيانا من موقع المعارضة» عن معالجة الأزمات المتعاقبة والمتوالدة من ذاتها، والتى تهدد البلد الجميل بمخاطر جدية لا تجد من يعالجها.

العنوان السياسى المضمر، قبل النفايات وبعدها، يبقى للشلل الذى يضرب الدولة نتيجة للشغور فى موقع رئاسة الجمهورية الذى تقارب مدته الخمسمائة يوم بلا موعد محدد أو مرتقب لإجراء انتخابية رئاسية فى هذا الوطن الصغير متعدد الطوائف والمذاهب التى طالما كانت ملاعب أو مواقع نفوذ للأقوى والأقرب من الدول العربية وللغرب بقيادته الأميركية مع تأثيرات فرنسية لأسباب تاريخية.

يتصل بذلك أن مجلس النواب معطل بالانقسام السياسى الحاد، وبالتالى فلا جلسات تشريع ولا معالجة لشئون البلاد على اختلافها المالية منها والاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن أن هذا المجلس قد انتهت ولايته منذ أكثر من سنتين، وهو لا يلتئم إلا ليمدد لنفسه خلافا للأصول وقواعد الديمقراطية.

وفى ظل هذا الانقسام السياسى القابل دائما للتحول إلى طائفى، فإن الحكومة الائتلافية التى تجمع معظم القوى السياسية ذات الثقل الشعبى ليست موحدة فى قرارها، وهى عمليا، تقوم مقام رئيس الجمهورية إضافة إلى صلاحياتها الدستورية. ومن هنا اعتبر بعض الوزراء الموارنة أن «من حقهم» الادعاء بأنهم يمثلون رئاسة الجمهورية ولهم حق الفيتو على القرارات التى يعتمدها مجلس الوزراء، وهكذا تم تعطيل الحكومة وشلها عن اتخاذ أى قرار، فى حين أن أوضاع الدولة جميعا تعانى من الاهتراء.

***

الدولة تعيش بلا موازنة، والحكومة «تتحايل» على صرف النفقات، ومن بينها رواتب الموظفين، وكذلك ابتداع الصيغ القانونية لإقرار الحصول على قروض وهبات بينها ما هو مقدم من مؤسسات دولية «البنك الدولى وصندوق النقد الدولى وبعض الدول أو الصناديق العربية»، فضلا عن الوفاء بالتزامات وموجبات لا مجال لإرجائها وإلا عصفت الرياح بسمعة البلاد والدولة العاجزة.

وصحيح أن النظام فى لبنان أقوى من الدولة بما لا يقاس، وإنه هو «الأساس» والدولة نتيجة تصبح معها الحكومة تفصيلا. وإن لبنان عاش عمليا لسنوات من دون دولة، بالمعنى القانونى والعلمى للدولة، وعاش أيضا بحكومتين أحيانا، نتيجة الانشقاق السياسى، وبلا حكومة ولمدد طويلة فى أحيان أخرى، إلا أن النظام ظل صامدا بما يمثل من قوى دولية وعربية تصونه وتحميه لأنه حيوى جدا لمصالحها فى المنطقة عموما التى أسقطت عنها هويتها العربية، واخترعت لها هوية بديلة هى «الشرق الأوسط». وربما يراد أن يكون لبنان نموذجا لها.

وهذا هدف استراتيجى يتمثل فى إسقاط الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة التى قسمت دولا وفقا لمصالح الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا، وبالتحديد مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث اعتمدت الطوائف والمذاهب لحماية تلك المصالح وعلى رأسها النفط الذى كانت بشائره الأولى قد أطلت، فضلا عن الغاية القصوى وهى التمهيد للكيان الإسرائيلى، الذى سيقام بالقوة على أرض فلسطين، باعتماد الدين أساسا لدولته.

***
فى عودة إلى الحراك الشعبى فى بيروت. لابد من الشهادة له بأنه كان سلميا، وإنه جمع فى أفيائه هيئات ومنظمات مما بات يسمى «المجتمع المدنى» التى صار له من يرعاه فى الاتحاد الأوروبى ومؤسسات أمريكية للمساعدة وجهات دولية أخرى «ألمانية أساسا وفرنسية بحدود معينة».
معظم هذه الهيئات «شبابية»، وفى قيادات بعضها من اقتبس الخبرة من بعض أشكال النشاط الشعبى الاجتماعى، فى دول غربية بعيدة، بغير عنوان سياسى، وإن كان مضمونه بالمعنى العام «سياسيا».

وكان طبيعيا أن تحاول بعض الأحزاب والتيارات السياسية، أن تبادر إلى إثبات حضورها وعدم الغياب عن تحرك يرفع مطالب شعبية محقة. خصوصا أن «النفايات» التى ملأت الشوارع وسدت الطرقات تحولت إلى «قضية وطنية»، فضلا عن أنها فضحت الطبقة السياسية جميعا، بالحكومة العاجزة عن اتخاذ قرار بسبب من خلافات مكوناتها، والمجلس النيابى المقفل بالخلافات السياسية، وقصر الرئاسة الشاغر من شاغله الدستورى «رئيس الجمهورية».

ولقد تفرج الأشقاء العرب على «الديمقراطية» فى لبنان، حتى وهى لم تتجاوز «الصورة» فحسدوا اللبنانيين أيما حسد، وتبارت وسائل الإعلام الدولية والعربية التى تملك هامشا ولو ضيقا للحرية، فى نقل هذا الحدث الجلل واستصراح الكتاب والمعلقين المتفرغين.

وفى حين يشكو اللبنانيون من «عداء» نظامهم لمطالبهم المشروعة، فضلا عن مطامحهم، باعتباره يوفر فرصة للصراخ فى التظاهر «المضبوط» أو فى أجهزة الإعلام من فضائيات وصحف خاصة، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعى التى جعلت أسرار الممارسات والسياسات الحكومية مشاعا مفتوحا، فى حين أنه لا يحل أية مشكلة من مشاكل حياتهم. فإن أشقاءهم العرب المحرومين من حق التظاهر والتعبير عن رأيهم من دون خوف من الاعتقال والتحقيق المهين والسجن بلا محاكمة أو بمحاكمة معروفة أحكامها سلفا، يجدون فى هذه الحرية تزكية للنظام فى لبنان، ما يجعله أفضل بما لا يقاس من الأنظمة التى تحكمهم، وهم محاصرون فى قلب الصمت.

وبسبب من القمع المنهجى الذى تمارسه السلطات ضد شعوبها فى معظم الأقطار العربية، تصبح هذه الديمقراطية القاصرة فى لبنان مطمحا عزيزا ومطلبا دون خرق القتاد خارجه.

صارت تظاهرة، مجرد تظاهرة تخرج فى شوارع بيروت، المدينة الساحرة والجاذبة للعرب فى مختلف ديارهم حتى كادوا يعتبرونها عاصمة الثقافة والإبداع الفكرى والسبق إلى العصر، تفرح الأشقاء العرب قليلا وتحزنهم كثيرا، لأنهم لا يتمتعون بحرية التظاهر إلا انفجارا، ولا هم قادرون على التعبير عن آرائهم إلا بالتورية أو بالهمس أو بالصمت يأسا من أنفسهم فضلا عن يأسهم من أنظمتهم التى قد لا يتذكرون متى قامت، وغالبا بالانقلاب العسكرى أو بانفجار غضبهم من هيمنة قوى سياسية بالشعار الدينى الذى لا يستطيع إخفاء غربتها عن العصر وتخلفها.

***

إنها تظاهرة بيروت، حتى لو تعددت وتزايد الحشد فى التظاهرات المقبلة، السياسية ولو أنها فئوية، تعطى شهادة لنظام عاجز عن تحقيق مطالب شعبه، بل إنه يرفض الاعتراف بوحدة شعبه ويريده أن يبقى طوائف ومذاهب مختلف وبالتالى يفرض عليه الخيار بينه وبين الحرب الأهلية.

مع ذلك، فإن هذا النظام رأسمالى المضمون والوجهة، يفتدى أو يبرر نفسه بديمقراطية شكلية، فيسمح ببعض مظاهر الحرية السياسية بمنطق أن «الشعب متعدد الهوية» انطلاقا من التعدد الطائفى والطائفى، وطمسا للهوية الوطنية الجامعة.

ومع ذلك وبسبب من بؤس الأنظمة العربية السائدة والتى تقهر شعوبها «بالزعيم القائد» وعصبته، أو بالملك مطلق الصلاحية والذى يتكرم على رعاياه بين الحين والآخر ببعض بعض حقهم فى ثروة بلادهم الطبيعية، يتبدى النظام السياسى فى لبنان، وكأنه التجسيد الأكمل للديمقراطية، حيث حق الكلام والكتابة والنشر والنقاش المفتوح على الهواء، عبر الشاشات متعددة الولاءات مع الغرض التجارى بل قبله، متاح لكل من يرغب. فالكلام يذهب مع الهواء، فإذا ما تجاوز الحدود تم قمعه بالوسائل الديمقراطية الحديثة، ذلك أن المعارضة السياسية كما موالاة أهل الحكم تخضع لسقف معروف ومحدد بالتواطؤ الضمنى مع القيادات السياسية والطائفية والمذهبية، وجميعها من «الأبناء الشرعيين» للنظام الذى لا يقهر، لأنه محمى دوليا وعربيا، فضلا عن طوق النجاة الطائفى الذى يعطل حركة التغيير ويمنعها من تحقيق أهدافها.

***

إن فى لبنان عشرات الأحزاب السياسية التى تتراوح منطلقاتها وأهدافها بين الوطنية والتقدمية والدينية والمذهبية، فلكل طائفة حزبها أو أحزابها السياسية، بمن فى ذلك الأرمن الذين حافظوا على أحزابهم الأرمنية الأصلية، التى تؤكد على أصولهم وتميزهم من دون الخروج على «الوحدة الوطنية» والدولة فى لبنان.

والنظام يبرر نفسه بكونه الحاضنة لمجموعة من الأقليات الدينية والطائفية وذات الأصول المختلفة، وبالتالى فالديمقراطية فيه مختلفة جذريا بمضمونها كما بممارساتها الفعلية ولا علاقة لها بالديمقراطية كما تشهد لها، بل تعيش بها الدول فى الغرب والشرق.

ومن الأسف أن يكون النظام القائم فى لبنان قد باتت له فى أذهان المواطنين العرب فى مختلف أقطارهم صورة زاهية تشغلهم عن مضمونه، لان أوضاعهم فى بلادهم مزرية، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بحيث يتلقى النظام فى لبنان تزكية لا يستحقها، على الأقل فى نظر «رعاياه» الذين يعيشون فى ظلاله الوارفة، بينما إخوانهم يعيشون خارج العصر تتهددهم رياح الحرب الأهلية بمضمون طائفى أو مذهبى فى ظل أنظمة قمع لا ترحم ومستعدة لتدمير البلاد فوق رؤوس الرعايا المعترضين على قدر الله والذين حق عليهم العقاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved