الخطيئة المؤسسة للفتن الطائفية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 9 سبتمبر 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

ما حدث فى «دمشاو هاشم»، القرية شبه المجهولة فى محافظة المنيا، من أعمال عنف واعتداء على أقباطها ترويعا لآمنين يؤدون صلواتهم وحرقا لبيوت ونهبا لممتلكات يستدعى الحزم فى المواجهة، وإنفاذ القانون على المتورطين فى تلك الجرائم، التى تحض على الكراهية وتسمم البيئة العامة على نحو ينزع عن المجتمع سلامته وأمنه.
إذا تقوضت حقوق المواطنة وغيب القانون فإن الفتن سوف تتمدد بأخطارها من وقت لآخر، وأحيانا لأوهى الأسباب.
هذه أصول دستورية وإنسانية تضمن سلامة السبيكة الوطنية فى مواجهة أية أزمات وعواصف.
مع ذلك يصعب الادعاء أن إنفاذ القانون وحده يضع حدا للفتن الطائفية ويمنع تكرارها.
بذات القدر يصعب الادعاء أن المسألة كلها أمنية، أيا كانت التحفظات والتساؤلات التى تتردد عند كل فتنة بشأن أداء مؤسسات الدولة.
إذا ما أردنا أن نضع الأمور فى نصابها، فإن إنفاذ القانون مدخل رئيسى، لكنه ليس المدخل الوحيد، وتحسين أداء مؤسسات الدولة مدخل آخر، لكنه لا يلخص الملف المحتقن وتعقيداته.
صلب أية مواجهة هو إصلاح البيئة العامة وفتح شرايين المجتمع، وهذه مسألة سياسات عامة تضمن الحق فى التنفس السياسى والحق فى العمل والثروة الوطنية وتكافؤ الفرص.
اليائسون والمحبطون هم وقود أية فتن طائفية.
أهم ما تحتاجه مصر أن تتعرف بأكبر قدر من المكاشفة على مواطن الفتن أسبابها وجذورها والخطايا التى أسست لها.
كانت الخطيئة الكبرى استخدام ورقتها واللعب بنيرانها لأسباب سياسية.
فى يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) داهمت الفتنة الطائفية مصر لأول مرة منذ عقود طويلة.
بدت أحداث «الخانكة» بتوقيتها وملابساتها صدمة هائلة هزت المجتمع المصرى.
كانت مقاليد السلطة استتبت لـ«أنور السادات» بعد إزاحة منافسيه عليها والزج بهم فى السجون بعد أحداث مايو (1971).
ينسب لتجربة «جمال عبدالناصر» أنها ضربت الأساس الاجتماعى للنخبة القبطية وجردتها من أراضٍ وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية.
هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الدينى.
بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيم المواطنة، تأكد التماسك الوطنى وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة.
ما الذى استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته فى النظر إلى حقوق المواطنة والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟
تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلى، أو تفجيره بالفتن، قبل أية مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل.
أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه.
لم يكن الرئيس الجديد مقنعًا لقطاعات كبيرة من المصريين بقدرته على ملء فراغ سلفه الراحل، وريح المعارضة تهب عليه من داخل نظامه وخارجه على السواء.
بدأ التفكير مبكرًا، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، فى استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصرى والماركسى.
جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» من الخارج والتصالح معها.
برز فى الحلقة الرئاسية المقربة «محمد عثمان اسماعيل» محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: «أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط».
هكذا بالحرف.
شرع تحت عباءة النظام فى تأسيس «الجماعة الإسلامية» بالجامعات المصرية لمواجهة الطلاب اليساريين الذين يعارضون «السادات».
أفضت اللعبة بنتائجها وتداعياتها لاغتيال الرئيس وشيوع الإرهاب فى الصعيد سنوات الثمانينيات والتسعينيات.
لم تكن قد أخذت عند وقوع فتنة «الخانكة» كامل أبعادها مثل إعلان «السادات» أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، لكنها وفرت بيئة سلبية احتضنت الفتنة وزكت نيرانها، التى داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.
شكلت لجنة برلمانية لتقصى الحقائق ترأسها الفقيه القانونى الدكتور «جمال العطيفى»، انتهت بعد عشرين يومًا إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولًا عامًا، لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد.
تمددت الفتن واشتعلت النيران فى «سمالوط» و«أبو زعبل» (١٩٧٨) و«الزاوية الحمراء» (١٩٨١) و«شبرا» و«الزيتون» و«إمبابة» (١٩٩١) و«الكشح» (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا فى (2013) إلى موجة اعتداءات بالسلاح على الكنائس المصرية بهدف إضفاء طابع دينى على الصراع السياسى الذى أفضى إلى إخراج جماعة «الإخوان المسلمين» من الحكم.
بصور أخرى ولأسباب مختلفة جرت بعد ذلك فتن طائفية فى محافظات «المنيا» و«بنى سويف» و«أسوان» وغيرها حتى داهمتنا مؤخرا أحداث «دمشاو هاشم».
«فى مصر فتنة طائفية».
كانت تلك جملة قاطعة بدأ الأستاذ «أحمد بهاء الدين» فى مارس (١٩٨٧) سلسلة أعمدة يومية استغرقت أسبوعا عن فتنة كادت تبدد السلام النفسى قبل الاجتماعى، وتذهب بالعقل إلى ما يتجاوز الجنون.
فى تلك الأيام انشغلت مصر بقصص وشائعات عن «القماش الذى يظهر الماء عليه رسم الصليب والكف، التى إذا صافحتك طبعت على يدك رسم الصليب».
«كنت ارتعد لسريان هذه الخرافات وما يترتب عليها من حقائق نفسية وعقلية ومادية مرعبة».
كان قد مضى ربع قرن على «تقرير العطيفى»، وبدا الكلام كله عودًا على بدء.
التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، و«له ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور وكل المجتمعات، فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه».
فى ردات الفعل الاجتماعية يجرى البحث عن أكباش فداء.
كما أن «الإحباط إزاء عدو خارجى مثلًا، أو العجز عن مواجهة تحديات خارجية، يجعل الناس فى عجزهم ينكفئون على صراعات داخلية لم تكن موجودة من قبل».
«فإذا كان العنصر الخارجى صعبًا فقد يهيأ للبعض أن العنصر الداخلى أسهل».. «وإذا انعدمت القدرة على مواجهة أعداء حقيقيين، فالبحث يتجه تلقائيًا إلى إيجاد أعداء غير حقيقيين للتنفيس».
المعنى أن التعاسة الاجتماعية، كما العجز الوطنى، من محركات الفتن، فضلًا على إحباط الشباب الذى يعانى سوء التعليم والبطالة، والأفق مسدود أمامه، والدور السلبى الذى يلعبه الإعلام أحيانًا والجهالات التى تُنسب إلى الدين ظلمًا.
«هذه بذور التعصب التى يأتى من يصب عليها الزيت فتتحول إلى نار».
هكذا كتب الأستاذ «بهاء» قبل أكثر من ثلاثة عقود دون أن نتخلص من إرث الخطيئة المؤسسة للفتن الطائفية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved