سُداسية فوق سياسية

محمد المخزنجي
محمد المخزنجي

آخر تحديث: الخميس 10 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

1 ــ الجراحة الناجحة التى أُجريت لى بمركز الكلى بالمنصورة منذ أسبوعين لم تكن فقط تجربة إحساس شخصى بود الأسرة الطبية التى أشرُف بالانتماء إليها، وفى صرح فريد أسسه على التقوى فى مبناه ومعناه ابن مصر البار الدكتور محمد غنيم، بل كانت أيضا تشع بفكرة للخروج من النفق السياسى الخانق وشديد الخطورة الذى تمر به بلادنا، فقد شملتنى برعاية المحبين الصادقة كتيبةٌ من خيرة علماء وجراحى العالم فى هذا الصرح الطبى الفريد، بالرغم من كونهم كما كل أبناء وطننا تتوزعهم أطياف مختلفة فكريا وسياسيا، لكنهم توحدوا على حمل قطعة من عمرهم يمثلها شخصى المتواضع على أكف الرعاية والحدب، بعيدا عن شظف الاستقطاب الجهول الذى يجتاح مصر الآن، فقد فكرت فيما يمكن أن يكون دافعهم إلى كل هذا الود نحوى، ولم أجد أعمق من أنه إحساسهم بأننى كزميل دراسة أمثل جزءا من عمرهم، كما يمثلون جزءا من عمرى، وهو عمر عزيز على كلينا برغم أى اختلاف خارج كيان الإنسان كإنسان، نوع من التراحم نقى ونبيل، يوحى لى باقتراح للخروج من ربقة الاستقطاب الذى تعيشه مصر الآن بفعل غباوات النهم لتراب الوجود البشرى من شهوات السلطة والنفوذ والمغالبة، فهنا مبدأ «فوق سياسى» لمع أمامى ضياؤه وأنا بين الألم والأمل تحملنى أكف عناية إخوة عمرى وكُلِّيتى ومدينتى. ونحن محتاجون لمثل هذه «رؤية فوق سياسية»، قوامها العدل والحق والشرف وحب الإنسان كإنسان، للإحساس بأن كل مصرى هو جزء من وجودنا، مهما اختلفت القناعات والاجتهادات. رؤية شارك فى إضاءتها لى، تبعا للترتيب الأبجدى، الأساتذة الدكاترة: أحمد شقير (مدير المركز المهذب البشوش والدؤوب بلا صخب)، وحسن أبو العينين (الموهوب مهنيا وإنسانيا والذى ربحت صداقته الشخصية)، والحسينى الزلوعى (الذى أجرى الجراحة الدقيقة ببراعة وأناقة)، وعطا الله شعبان (أول دفعتنا الودود العطوف رئيس قسم الجراحة) ومحمد عطا الله (فنان التخدير الذى أهدانى معزوفة متكاملة ضد الألم). أشكرهم على كل هذا التراحم، وعلى إشراق الفكرة التى أتمنى أن تكون سبيلا لصون صيغة هذا الصرح النبيل فيما بينهم، وإنقاذ مصر وطنا لكل المصريين.

 

2 ــ برغم كل الصبيانيات والسطحيات التى لم تر فى موقفى الإيجابى العام من المؤسسة العسكرية غير تحريض لها على غيرها أو حنين مرضى للحكم العسكرى، فإننى لا أزال على موقفى الإيجابى من الحرص على قوة ومنعة هذه المؤسسة الوطنية الجامعة، والتى أرى أن دورها لا يتوقف عند حماية الحدود ضد العدوان الخارجى، بل يمتد للحماية الداخلية ضد أى انقلاب على مقومات الأمة تاريخيا ومجتمعيا، وضد أى إغارة على بيئتها، لهذا أتفهم وأحيى أهمية دورها فى حماية المحميات الطبيعية فى مصر والتى لاقدرة لأحد على حماية آمادها الجغرافية الشاسعة غير هذه المؤسسة، كما أتصور أنه بات واضحا الآن أكثر، صواب إستراتيجية أن يكون للجيش، فى إطار الشفافية، مؤسساته الاقتصادية الخاصة التى تكفيه مؤونة احتياجاته اللوجستية عندما تضطرب السياسة ويخرف الاقتصاد فى بلادنا، وقد تشرفت وأنا على سرير المرض بزيارة إنسانية من ضابط بالقوات المسلحة، سألته عن وضع الجيش فى ملابسات المشهد الحالى، فأنبأنى أن وزير الدفاع والقيادات العليا فعَّلوا سلسلة برامج تدريب مكثفة لم تحدث منذ سنين، لتمتين قوى هذه المؤسسة الداخلية والنأى بها عن استقطابات المشهد السياسى المضطرب، وقد رأيت فى ذلك رحمة، لأن الجيش المصرى يظل هو الحصن المنيع الباقى للدولة المصرية فى مواجهة من يريدونها لا دولة يرث أنقاضها عشاق الخراب. ومن باب الحرص على هذا الحصن والملاذ الجامع لكل المصريين، أقول للفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع وضباط جيشنا الوطنى، إننى سمعت عن شدة مبالغ فيها تجاه بعض المجندين الجدد، وقد فسَّرْتُها باحتمالين، أولهما أن تكون هى الشدة المُعتادة فى مراكز التدريب والإعداد، وقد عشتها كطبيب فى شهور التجنيد الأولى وصرخت من قسوتها كما صرخ غيرى فى بادئ الأمر، ثم اكتشفنا فضلها العميم على حياتنا حتى هذه اللحظة، أما الاحتمال الثانى فقد يكون نوعا من الحالات الفردية التى يثأر بها ضباط ساءهم ما تصوروا أنه إهانة لشخوصهم كعسكريين إبان اضطرابات فترة حكم المجلس العسكرى، وهنا يتوجب علىَّ من ضمير المحب والمُقدِّر للرحمة الماثلة فى منعة وقوة جيشنا الوطنى، كما من إحساسى بأن مقام القوات المسلحة هو أعلى من أى نزوع للثأر الشخصى، أن يكون هناك تجنُّب لمثل هذه الحالات إن وُجِدت، فهذا أدعى للتراحم الذى هو عنصر أكيد من عناصر تفرد خير أجناد الأرض.

 

3 ــ فى المنصورة أستشعر بإحساس العائد من الغربة مدى رهافة ودفء وحنان التراحم، وأربط فى ذهنى المولع بالجذور اللغوية ما بين التراحم والرحمة والرَّحِم، فأتذكر الجلال الذى أحسست به وأنا طالب فى المرحلة النهائية يوم رأيت الرَحِم لأول مرة بغرفة الجراحة أثناء اطلاعنا على عملية ولادة قيصرية، فأيقنت أنه الأجمل والأكمل بين أعضاء الجسد البشرى كله، كمثراة وردية ناضرة كبيرة، مرهفة وقوية النسج، ليست مجرد وعاء لحماية الأجنة وإعدادها حتى تتأهل للخروج إلى الدنيا، بل صلة وصلٍ عليا بين الناس، وهى آخر عضو يتحلل بعد الموت عند الأنثى البكر، وأكثر عضو يفرض تأثيره الأعمق نفسيا وعضويا حين تتفتح رياحين الأرض، زهرات البشر. ثم يصدح داخلى قوله تعالى فى سورة محمد: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، أشعر بالهول من ذلك الإثم العظيم، هول تقطيع الأرحام، وفى إطار فهمى للمعنى الشامل روحيا وعلميا بأننا جميعا من رحم واحدة، وأننا مع إخوة الوطن من أقباط مصر أقرباء فى الدم وجوهرالانتساب الوراثى، أرفض كل الفظاظات والجلافات العدوانية الطائفية المتعصبة، التى تُمَارس ضدهم من قِبل قِلة من الهمج يتخذون من سوء التأويل للدين تنفيسا لتشوهات نفوسهم، وأقول لإخوتى مسيحيى مصر: كل عام وأنتم بخير، ونحن معا، أبناء وطن واحد، ورحمٍ أساس، لا تستسلموا أبدا للإحساس غير الحقيقى بأنكم أقلية، فأنتم معنا ونحن معكم أغلبية، أغلبية مصريون يؤمنون أن النفس الإنسانية هى أشرف النفوس جميعا، لأنها جميعا من خلق الله، أغلبية متحابة بالود والتراحم. عيد ميلاد سعيد.

 

4 ــ عمرو ومحمد وكريم وتامر ومحمد، أطباء نواب من أوائل دفعتهم، ما إن يُشرق على غرفتى فى المستشفى واحد منهم حتى أحس بالبشر والسرور والفخر بهم، فهم فى عمل لا يكل وتعلُّم مستمر تتشربه كياناتهم الذكية الناضرة، لا أعرف متى يأكل أو يستريح هؤلاء الأطباء الشبان الرائعين، أتفرسهم بمحبة، فيلوح منهم المتعاطف مع الإخوان، أو السلفيين، أو الليبراليين، أو غير المهتم بالسياسة، وأراهم باقة تجسد فكرة التنوع الخلاق فى ظل مبادئ فوق سياسية، مبادئ التراحم الإنسانى واسع الأفق، والإخلاص للعلم والعمل، تحس بأن الفروق بينهم تقف بتسامح صادق عند حدود الاختلاف الذى لا يُذهب للود قضية، نقاء صاعد يوحى لى بأن مِثلَهم الأمل، وبأنهم أفضل من معظم الكبار الطافين على السطح السياسى الذين يعكرون صفو حياتنا المصرية الآن من «القيادات» و«الرموز» و«الكبار» الذين يتصدرون المشهد بالعافية والتقادم، فى جماعاتهم وأحزابهم وأطيافهم وتياراتهم، بينما الأفضل هم الشباب الذين لم تتغضن أرواحهم ببغضاء السنين ولم يتكدر صفاؤهم بعنت التعصب. حمى الله الشباب، وحمى مصر بشبابها.

 

5 ــ قُبيل سقوط النظام السابق كتب الصديق العزيز الأستاذ جمال الغيطانى مقالة يطالب فيها بمنح قلادة النيل لعلماء ذوى مكانة قدموا لمصر وشعبها، على أرض الواقع، ما يثبت عظيم إخلاصهم، وذكر اسمين محددين هما الدكتور مجدى يعقوب والدكتور محمد غنيم، واتصل من الرئاسة من يخبر جمال الغيطانى بأن اقتراحه محل ترحيب، ثم مُنحت قلادة النيل للدكتور مجدى يعقوب فى ظروف كان النظام خلالها يحاول تجميل وجهه المشوه لا تقدير المستحقين، وعندما سأل الكاتب عن سبب عدم منح الدكتور غنيم القلادة وهو مستحق لها بلا جدال، فقيل له من أحد دهاقنة القصر «دا بيشتم الرئيس»!. فهل يستطيع الرئيس الدكتور محمد مرسى منح الدكتور محمد غنيم قلادة النيل التى يستحقها قطعا؟ أم أن اليوم لا يختلف كثيرا عن الأمس، وسوف يقول عن الدكتور غنيم من دهاقنة العصر قائل: «دا ضد الإخوان»؟!

 

6 ــ وأنا على سرير التعافى سرتنى زيارته الصادقة، نفحة ودٍّ من عمر الصبا والزمالة، فأستعيد مدى ما تعرض له من ظلم لمجرد أنه شَغِل منصبا رفيعا فى العهد السابق، لم يكن فيه إلا مُستحِقا جديرا نظيف اليد ومجتهد الهمَّة، وأتذكر جلسات المصالحة والمصارحة التى أرساها العظيم نيلسون مانديلا عندما تسنم الحكم بعد سقوط النظام العنصرى، وأفكر فى الحماقة التى نرتكبها فى حق أنفسنا عندما نُقصى عقولا وطاقات كالتى لصاحبى. وتأتينى حكمة العبقرى الساخر الراحل جلال عامر: «إذا انشغلنا بالمطاردات فقط، فسوف نتحول إلى غابة أفريقية»! جنوب إفريقيا نجت من مصير الغابة بالمصارحة والمصالحة، واستمرت أكثر دول القارة تقدما علميا وتقنيا، وأقواها اقتصاديا.

 

نحن فى حاجة لمصالحة مُنْصِفة، ليس مع الأمس فقط، ولكن مع اليوم والغد بكل تأكيد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved