حمار سعيد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 10 يناير 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

حمار حفر لنفسه بالصوت والصورة مكانا ثابتا ودائما فى ذاكرتى. كنت قبل عقود شابا تستهويه الأصوات الجميلة. أقضى ساعات الليل المتأخرة أذاكر وأنتظر فى لهف صوت الكروان يقطع السكون ويهزنى من الأعماق. أما ساعات المساء المبكر فكنت أقضيها منصتا إلى صوت لعلنى لم أسمع بعد صوتا فى جماله حتى يومنا هذا، كان صوت بائع الفول الأخضر وهو يعلن عن بضاعته بأحلى الكلمات وأعذب الألحان وكلها من تأليفه. كنا، شلة مراهقى الحى، نتنافس على تقليد صوته. كلنا، الشباب والأهل، كنا نهرع إلى اسكات الراديو وتهدئة الأطفال واحتلال مواقع متميزة فى «البلكونات» وعلى الشبابيك، عند اللحظة التى نسمع فيها نهيق الحمار وهو قادم فى اتجاه بيوتنا يجر عربة الفول. حمار منضبط ينهق مرة واحدة بصوته القبيح قبل دخول شارعنا وينهق مرة أخرى عند الخروج منه. استطاع هذا الحمار أن يحظى باحترامنا واعترافنا بجميله، فبفضل انتظام مواعيده وقوة حنجرته استمتعنا كل مساء ولسنوات بتغريدات بائع الفول.
***


كانت ابنتى دون التاسعة من عمرها عندما اصطحبتها أول مرة إلى مطعم فضلته وفضله السياح على كثيرين غيره فى الجوار. كانت لنا رحلة إليه مرة فى الشهر. الكبار فضلوه لجودة ما يقدم من أطباق ولمهنية ونظافة وأمانة العاملين، وأكثرهم إما من المصريين سمر البشرة أو من يونانيين أقل سمرة. أحبه الصغار عموما لأن صاحبه نجح فى أن يجعله مطعما صديقا للطفل، وهو النوع الصعب فى معظم مطاعم القاهرة وقتذاك، وربما ازداد صعوبة مع مضى السنين. انفرد المطعم بين مطاعم الضاحية بخاصية أخرى جعلته المطعم المحبب لابنتنا وكثير من الأطفال. ففى أرض فضاء ملحقة بالمطعم احتفظ بحمار واستأجر له حمارا «بتشديد الميم». كان مألوفا لرواد المطعم منظر الأطفال وهم يحاولون التفلت من قبضات أهاليهم بعد الدخول إلى المطعم ليركضوا فرحين ومتشوقين فى اتجاه الساحة حيث الحمار فى انتظارهم.
***


علاقاتى بالحمير كانت ولا تزال سطحية. لم يحدث أن حاول أحدنا التعمق فى فهم الآخر أو الاقتراب منه والتودد إليه. أنا شخصيا لم أحاول وواثق أن الحمار لم يحاول. جعلونى رغم أنفى أمتطيه كلما دعيت لقضاء إجازة عند أصدقاء فى ريف مصر. لم أشعر أنه كان مرتاحا لوجودى فوق ظهره وأنا نفسى لم أجد فى ركوبه أو فى صحبته متعة. لم نتعارف إلا حديثا جدا وأنا أقرأ عن أصله وفصله. عرفت أن مصر والصومال وبلاد ما بين النهرين مواطنه الأصلية ومنها خرج إلى جنوب آسيا ووسطها واستقر بأعداد كبيرة فى غرب الصين وهضبة التبت. ما أدهشنى هو أن شعب مصر كرم الحمار كما لم تكرمه شعوب أخرى فقد نصبه المصريون رمزا من رموز آلهتهم فى عصر من العصور. تأكدت لدينا مكانة الحمير المتميزة فى زمن الفراعنة عندما أعلن علماء آثار قبل أسابيع قليلة أنهم عثروا على موميات حمير مدفونة فى غرف ملاصقة لغرف ملوك وأمراء. كانت أيضا متميزة عند الرومان. يذكر أيضا فى الروايات التاريخية أن أمراء من اليهود كانوا يتبركون بحمل اسم «حمار».


ثقافات وحضارات عديدة مدينة للحمار. جاء ذكره مرارا فى الإنجيل وبخاصة فى نبوءة المسيح المنتظر ممتطيا حمارا، ثم إن عيسى المسيح وأمه مريم العذراء دخلا مصر على ظهر حمار. ويقال إن الحمار وصل أمريكا فى رحلة كولومبس الثانية، بمعنى آخر يحق لجماعات مكسيكية الاستمرار فى الاحتفاء به كمكتشف أصيل للعالم الجديد.
***


ذهلت عندما سمعت أن مصريا أو أكثر طالبوا مفتى الديار المصرية بتوضيح حكم الدين الإسلامى فى تصدير الآلاف من حمير مصر إلى الصين. لم أفهم دوافع الطلب. قيل إنهم معترضون لأن الصينيين يذبحون الحمير ويأكلون لحومها ويشربون حليبها ويستخدمون جلودها فى صنع الصابون ومنتجات التجميل فضلا عن أنهم يثمنون غاليا أعضاء معينة فى جسم الحمار. معروف عند الصينيين وغيرهم من الشعوب أن قطعان الحمير تتشكل من إناث أيا كان عددهم وذكر واحد.
لم أفهم حتى الآن غضب بعض المصريين على تصدير الحمير. هم أيضًا يذبحون الحمير ويعذبونهم بالضرب المبرح ويطعمونهم نفاياتهم ويسخرون منهم. أين هذه المعاملة الوحشية من معاملة المصريين القدامى الذين نصبوا الحمير أشباه آلهة ورموزًا لها، ومن اعتقاد بعض المسلمين بأن نهيق الحمار إنذار شيطان رجيم.
***


أعترف بأننى بعد كل ما قرأت عن الحمير خلال الأيام القليلة الماضية أصبحت من المعجبين بهم وإن عن بعد. الحمار حيوان بالغ الذكاء، وما سمعة الغباء الملتصقة به سوى دليل عجز الإنسان عن إجبار الحمار عن فعل شىء لا يريد أن يفعله. الحمار عنيد وعناده أقوى أدواته فى مقاومة عنجهية وظلم بنى البشر. الحصان مثلا لا يفكر كثيرا بل هو يمكن أن يرمى بنفسه إلى التهلكة أما الحمار فيفكر ويفكر. حيوان شديد الحذر، لا يقترب من الخطر ولا يستطيع إنسان مهما بلغ من القوة دفعه نحو ساحة قتال. صدق من وصف الحمار بأنه من دواب التنمية والسلام أما الحصان فمن دواب الحرب.

***


مرت سنوات عديدة، بل عديدة جدا. سألت عن المطعم فعلمت أنه انتقل إلى مكان أوسع. اتصلت وأجابنى على الهاتف صوت مهذب سألته قبل أن أطلب حجز مائدة إن كان الحمار موجودا. وصلنا وكانت معى ابنتى، ابنة التاسعة قبل سنوات عديدة، وابنتها وحفيدتها. هناك عند الساحة الخلفية للمطعم وقف حماران فى انتظار الأطفال. حمار حر ولكن مع مدرب خاص كالعهد به قبل سنوات عديدة، وآخر مربوط إلى عربة تسع أكثر من طفل أو طفل وأمه أو عائلة صغيرة. بدا لى الحماران سعيدين وراضيين بحالهما. وجدتهما متآلفين مع الرجلين المسئولين عنهما اللذين، وللغرابة الشديدة، لم يحمل أيهما كرباجا أو عصا. للغرابة أيضا لم أسمع حمارا منهما ينهق على امتداد الساعات التى قضيتها فى المطعم.
***
أسعدنى أن أرى فى بلدنا حمارا يعيش ويقاد بدون تهديد أو تعذيب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved