حول تسريبات النيويورك تايمز

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 10 يناير 2018 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

القصة ملغومة بأسرارها وخلفياتها ورسائلها والأسئلة كلها مشروعة حتى تستبين الحقيقة الكاملة فى تسريبات صحيفة «النيويورك تايمز».
ما الذى جرى.. وكيف.. ولماذا.. ومن يتحمل مسئولية الإساءة الفادحة لمصر فى العالم بأسره؟
إذا صحت نسبة التسريبات إلى ضابط فى أحد الأجهزة الأمنية، وهذا احتمال وارد لكنه مستبعد نسبيا، فإننا أمام كارثة تاريخية لا سابق لها تضرب فى عمق الأمن القومى المصرى والعربى على السواء وتتجاوز كل خط أحمر.
وفق التسريبات المسجلة فإن الضابط المفترض وجه ثلاثة إعلاميين بمماشاة الغضب العام على اعتراف الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، مثل الأشقاء العرب الآخرين، دون التورط فى دعم الانتفاضة الفلسطينية، وأنه لا فارق بين القدس ورام الله كعاصمة لفلسطين، بما يعنى الاعتراف ـ ضمنيا ـ بقرار «ترامب» على عكس المواقف الرسمية المعلنة.
وإذا لم تصح نسبة تلك التوجيهات إلى أية جهات أمنية، وهذا احتمال مرجح للغاية، فأين وجه الخلل الذى دعا قطاعات عريضة فى الرأى العام العربى والفلسطينى إلى تصديق أنها حدثت فعلا؟
باليقين فإن منسوب التدخل الأمنى فى العمل الإعلامى وصل إلى حد أفقده مهنيته وموضوعيته وأى قدرة على التأثير.
نزعت السياسة من على الشاشات بقدر ما جففت فى الحياة العامة.
هذا وضع خطر ينذر بعواقب مرعبة، فعندما تتسيد أغلب التغطيات السياسية وجوه تتلقى التوجيهات الأمنية، كأنها وحى يوحى، يفقد الإعلام، احترامه لنفسه كما احترام مشاهديه، الذين ينصرفون عنه إلى محطات دولية وإقليمية بحثا عن حقيقة ما يجرى فى بلادهم.
هذا النوع من الأداء والتفكير أضر بصورة البلد على نحو يصعب ترميمها فى أى مدى منظور.
من أسباب الاهتمام الدولى والعربى البالغ بتلك التسريبات، منسوبة إلى توجيهات أمنية مصرية، أنها تسلط الضوء على ازدواجية المواقف بين ما هو معلن وما هو فعلى فى قضية القدس ومستقبلها.
هناك من رأى فيها تخليا مصريا عن القدس واعترافا ضمنيا بقرار «ترامب»، وكان ذلك داعيا لحملات إعلامية وسياسية استخدمت فيها كل الاتهامات وشرعت خلالها كل الأسلحة.
وهناك من رأى فيها فرصة أمام إسرائيل لإثبات أن تهويد القدس مسألة وقت وأن دولا عديدة فى أوروبا والعالم العربى نفسه سوف تنقل سفاراتها إلى المدينة المقدسة، كما توقع رئيس وزرائها «بنيامين نتنياهو» فى أعقاب قرار «ترامب».
لا يمكن استبعاد العامل الإسرائيلى فى أسباب عناية «النيويورك تايمز» الفائقة بقصة مشكوك فى صحتها تفتقد إلى دليل قطعى على أن «ضابط التوجيهات» شخصية حقيقية وليست منتحلة.
هل هناك فى أحد الأجهزة الأمنية الحساسة نقيب اسمه «أشرف الخولى»؟
وهل الصوت الذى تضمنته التسريبات له أم لغيره؟
وهل كانت هناك علاقات سابقة بين الضابط المفترض والإعلاميين الذين أصدر توجيهاته لهم.. أم أنهم اعتادوا تلقى التعليمات بغض النظر عن الأسماء والرتب؟
أين الحقيقة بالضبط؟
تحت ظلال التسريبات يستلفت الانتباه صغر سن ورتبة المتصل، التى لا تخوله رسم السياسات العامة لأجهزة حساسة فى موضوعات بالغة الخطورة كالوضع القانونى للقدس.
إذا كانت الشخصية حقيقية فمن الذى كلفه؟.. وعلى أى أساس؟
التساؤلات لا تتوقف وعلامات التعجب بلا حصر.
لو افترضنا صحة ذلك الاحتمال الخطير فلا بد ـ بدواعى التفكير فى كل المخاطر الماثلة ـ أن يتبعه سؤال عما إذا كان هناك اختراق ما وراء التسريبات يستدعى البحث فيه بكل جدية وألا تستبعده التحقيقات، التى أمر بفتحها النائب العام.
ثم من سرب التسجيلات إلى الصحيفة الأمريكية؟.. وكيف وصلت إلى محطة فضائية تبث من استنبول؟
هل من نفس المصدر الذى سربها إلى «النيويورك تايمز»؟
وكم تقاضى من ثمن؟
باعتراف أحد برامج «التوك شو» بمحطة فضائية أخرى تبث من نفس المدينة التركية فإنه قد عرض عليها شراء تلك التسريبات مقابل ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار جرى تخفيضها إلى ألفين وخمسمائة دولار غير أنه لم يتم الاتفاق باعتقاد أن المادة سوف تكون متاحة عندما يبثها الآخرون.
يقال ـ عادة ـ إنه لا جديد تحت الشمس، فقد شهدت مصر عند مطلع خمسينيات القرن الماضى قصة مشابهة رغم تناقض أهداف أبطالها.
عندما ألغى «مصطفى النحاس باشا» زعيم الوفد ورئيس الوزراء اتفاقية (١٩٣٦)، التى وقع عليها هو نفسه، سأله صحفى شاب متخرج حديثا من الجامعة الأمريكية: ما الخطوة التالية؟.. أجابه: الكلمة الآن للشعب.
تدفق الفدائيون على الاسماعيلية حيث معسكرات الاحتلال البريطانى، وكان نفس الصحفى الشاب «سعد زغلول فؤاد» على صلة وثيقة بهم، وشخصيته تقارب إلى حد كبير بطل مسلسل «فارس بلا جواد»، الذى لعب بطولته «محمد صبحى» وأثار جدلا واسعا.
فى تلك الأيام تخفى فى شخصية مراسل لصحيفة أمريكية اختلق اسمها «همر ديلى نيوز» وأطلق على نفسه فى بطاقة مزورة «سبنسر دريل»، محاورا زعماء أحزاب ومفكرين عن موقفهم من شعارات الجلاء بالسلاح وما قد يتبع خروج قوات الاحتلال.
بدت الإجابات كاشفة لما هو مستور من مواقف حقيقية، قال أحد زعماء الأحزاب إن بقاء القوات البريطانية فى مصر كفيل بضمان أمنها واستقرارها، وطالب آخر بزيادة أعداد قوات الاحتلال عشرة أضعاف.
وكانت الفضيحة مدوية عندما نشرتها صحيفة «الجمهور المصرى» لا الصحيفة الأمريكية المدعاة.
رغم اختلاف الأزمان والأبطال والأهداف فإن قصتى «النيويورك تايمز« و«الجمهور المصرى» تجمع بينهما الفكرة نفسها فى الإيقاع بآخرين لهم خلفيات وتصورات تناقض ما يعلنونه.
بمعنى آخر فإن تسريبات «النيويورك تايمز» أقرب ما تكون إلى استثمار استراتيجى فى الخلل الإعلامى والتدخل الأمنى بذات قدر أوضاع الارتباك فى السياسة الخارجية المصرية.
من مظاهر الارتباك سحب مشروع قرار عربى قدمته مصر إلى مجلس الأمن باعتبارها عضوا فيه يدين المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية المحتلة بطلب من «دونالد ترامب» قبل أن تصوت لصالحه.
ومن مظاهر ذلك الارتباك الحماس البالغ لما أطلق عليه «صفقة القرن» دون أن تحكمها أية مرجعيات دولية رهانا على الرئيس الأمريكى دون تحسب لمغبة تبنيه الرواية الإسرائيلية فى أشد صورها تعصبا وعنصرية.
وقد كانت الضحكات المتبادلة مع «نتنياهو» داعيا إضافيا لتصديق تسريبات «النيويورك تايمز».
هكذا يتلخص وجه الخلل فى أمرين، التدخل الأمنى فى الإعلام كما لم يحدث من قبل وارتباكات السياسة الخارجية.
ذلك يحتاج إلى تصحيح ورد اعتبار السياسة فى هذا البلد وبناء سياسته الخارجية وفق أمنه القومى ومصالحه الاستراتيجية وإلا فإن انكشافه على الأخطار سوف يكون بلا حد وسقف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved