(عنتريات) صينية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 10 فبراير 2010 - 8:16 م بتوقيت القاهرة

 نعيش أياما مثيرة نشهد فيها رفع الستار عن «البروفة» الأخيرة لعالم يتشكل بتوازن جديد للقوى الدولية، ونشهد أيضا فى مكان آخر نزول الستار عن الفصل الأخير فى مرحلة مهمة من تاريخ مصر الحديث. وشتان ما بين أداء الأطراف الدولية التى تشارك فى صنع العالم الجديد، وبين أداء الأطراف المحلية التى تنشغل فى مصر بعملية إسدال الستار عن فصل ينتهى أكثر من انشغالها بكتابة فصل جديد.

سمعت مصريا كبيرا يعمل بالسياسة يعلق على ممارسات مستقلة وتتسم بالجرأة تقوم بها دول وحركات وأحزاب أجنبية ويوجز تعليقه فى كلمة واحدة: عنتريات. كانت المناسبة حديثا يدور حول الاستغلال الأمثل لقدرات وإمكانات مادية ومعنوية بسيطة لتحقيق أداء متميز فى السياسة الخارجية والحصول على مكانة متميزة إقليميا ودوليا.

تجولنا فى أنحاء أمريكا اللاتينية، فكان النموذج تجربة كوبا وأداءها الممتاز على امتداد ستين عاما فى مواجهة القطب الدولى الأعظم والأقوى.

وفى مرحلة سابقة كانت الهند ويوغوسلافيا ومصر نماذج على كفاءة الاستغلال الأمثل لموارد بسيطة فى رسم السياسات الخارجية وتنفيذها.

ونشهد الآن، بانفعالات عديدة ومتضاربة، أداء تركيا المتميز خلال عهود الحكم الأخيرة وتجربة إيران بعد حربها مع العراق والأداء، وإن تفاوت، لحزب الله اللبنانى وحماس الفلسطينية. على كل حال، كانت الصين دافعنا فى هذه الجلسة لمناقشة موضوع الأداء المتميز فى صنع السياسة الخارجية.

كنا فى الحقيقة نردد، مع كثيرين غيرنا فى مناطق أخرى، التساؤل عن الأسباب التى دفعت كلا من الولايات المتحدة والصين وبخاصة الصين، لتصعيد نبرة التوتر فى العلاقات بينهما، وهل كانت قرارات الصين ومواقفها الأخيرة مجرد عنتريات بحسب وصف بعض السياسيين المصريين لسياسات وقرارات تتخذها حكومات تركيا وإيران وكوبا وسوريا وحماس وحزب الله وفنزويلا والبرازيل، أم كانت تجارب مدروسة حققت مكاسب سياسية أكبر وأهم من المكاسب التى تحققها دول تخضع لأنظمة حكم رزينة وقانعة ومتهادنة مع «أدنى مستويات الواقع وظروفه».


أن تقرر حكومة أوباما الدخول فى عدد من المواجهات مع الصين، وأن تصعد لهجة التعامل معها، فهذا تطور يمكن فهمه بسرعة وبساطة. فإدارة الرئيس أوباما محشورة فى شبكة مشكلات..أكثرها داخلى. كانت الإدارة إلى وقت قريب مراهنة على شعبية الرئيس أوباما للمحافظة على أغلبيتها فى الكونجرس وتجميل صورة أمريكا الخارجية وربما استعادة بعض مكانتها.

ولكن مع تردى الأوضاع الداخلية فى أمريكا هبطت شعبية أوباما فى الداخل كما فى الخارج، ولم تجد الإدارة مخرجا مؤقتا إلا التراجع عن وعود ومبادئ وسياسات التزم بها أوباما فى حملته الانتخابية، واسترضاء قوى داخلية لها مصالح فى الخارج أو معه.

من هذه القوى الجماعات اليهودية، وهذه بعث لها أوباما بإشارات عديدة جاءت جميعها على حساب الجانب الفلسطينى والعرب. منها أيضا «مؤسسات الحرب الباردة»، مثل بعض تيارات وقيادات المؤسسة العسكرية، وجماعات المحافظين الجدد، ومؤسسة صناعة السلاح، وشركات المرتزقة والأمن الخاص، بالإضافة إلى مؤسسة غير معترف بها ولكنها لا تزال مؤثرة، وهى العنصرية الموروثة من القرن الثامن عشر ضد الجنس الأصفر.

وهذه جميعا عادت تسترضيها إدارة الرئيس أوباما بتصعيد سياسات المواجهة مع الصين، فكان أن قرر استقبال الدالاى لاما رغم كل تحذيرات الصين واعتراضاتها، وقرر تنفيذ صفقة سلاح مع تايوان بعد سنوات من الالتزام الضمنى الأمريكى بعدم تزويد تايوان بأسلحة متقدمة، وألمح مرارا إلى نية أمريكا فرض عقوبات تجارية على الصين فى حال استمرت ترفض رفع قيمة عملتها بالنسبة للدولار وتمنع فتح السوق الصينية أمام سلع أمريكية معينة، وأخيرا كلف مؤسسات الحكم المعنية بنقل بؤرة التركيز فى السياسات الخارجية الأمريكية من أوروبا إلى آسيا وطمأنة دول شرق وجنوب شرق آسيا على أمنها.

أعلن محللون تفهمهم لهذه التطورات فى السياسة الخارجية الأمريكية، وبخاصة بعد أن تعمدت الصين فى الأشهر الأخيرة الإعراب عن نيتها ترجمة قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية. لم تكن واشنطن وحدها التى وصلها هذا الإعراب، ففى كوبنهاجن أبلغت الصين العالم بأسره أنها من تاريخه سوف تنطق باسم شعوب العالم الفقيرة من موقعها كقطب جديد فى القيادة الدولية.

وفى الموضوع الإيرانى، أجرت بكين بعض الحسابات فوجدت أن تخصيب اليورانيوم الإيرانى مسألة تهم أطرافا معينين لهم مصلحة فى إسقاط نظام الحكم فى إيران وأطرافا آخرين يرفضون فرض الهيمنة على إيران ونفطها وطاقتها الدينية وقوميتها الفائرة من جديد، وكلها قضايا لا تهدد بوضعها الحالى أولويات الصين الإقليمية. وجدت أيضا أنها تستفيد أكثر لو استخدمت موقعها فى مجلس الأمن لعرقلة الجهود الأمريكية الإسرائيلية فى الشأن الإيرانى، ستستفيد مكانة أكبر ونفوذا أعظم مما لو انساقت مع المنساقين فى الحملة المسعورة لشن حرب جديدة فى الشرق الأوسط.

تعرف الصين أنها قد لا تفلح فى منع نشوب حرب تشنها إسرائيل وتدعمها الولايات المتحدة عن بعد أو عن قرب، ولكنها تعرف أنها بمعارضتها ستفلح حتما فى كسر الإجماع الذى تسعى إليه إسرائيل وأمريكا، وهذا إنجاز كاف تؤكد قيمته التدهورات المتلاحقة فى مكانة أمريكا منذ شنت الحرب ضد العراق وسط شكوك باقية إلى اليوم، وتعرف أيضا أن تباطؤها فى التعاون مع أمريكا لفرض تسويات دولية يجعلها فى موقف أقوى تجاه أمريكا والغرب.

وعندما تدخل بكين فى مواجهة مع شركة جوجل، ومع مؤسسة الشبكة الإلكترونية التى تتحكم فيها واشنطن، فإنها تعلن للعالم بأسره أنها لن تقبل المشاركة فى قيادة العالم تحت مظلة مبادئ وأفكار الولايات المتحدة، أو أى قطب دولى آخر. وإنما سوف تصر على أن تسترشد بمبادئ الصين وأفكارها وليس بمبادئ وأفكار أطراف أو عقائد أخرى.

وعندما تلمح بكين إلى أنها قد لا تحضر مؤتمر نزع السلاح المزمع عقده فى واشنطن فى أبريل المقبل، فإنها تقول للغرب إنها لن تشارك فى مؤتمرات تخضع لمنظومة فكر وأيديولوجية وقيادة تنتمى إلى مرحلة تنتهى، وإنها حين تقرر الاشتراك فسيكون بعد أن توافق الولايات المتحدة وحلفاؤها على تغيير كثير من القواعد والمبادئ التى التزمها النظام الدولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وجدت فى مقال نشرته مؤخرا للإيكونوميست البريطانية ما يؤيد ما ذهبت إليه عن نية الصين أو شرطها تغيير قواعد النظام الدولى ومبادئه قبل الموافقة على التعاون فى حل المشكلات الدولية، جاء فى المقال أنه لأول مرة منذ ثلاثين أو أربعين عاما يظهر ما يمكن أن يطلق عليه «إجماع بكين» فى مواجهة «إجماع واشنطن» الشهير.

ولدى الصين ما يؤكد أنها تستحق أن يكون لها إجماعها، كما يستحق لواشنطن إجماعها، فالصين بنظام سياسى بخصوصيات معينة وممارسات داخلية مختلفة عما تدعو إليه أمريكا، حققت انتصارات سياسية متواصلة، وبنظام رأسمالى مختلف، أثبتت نجاحا لم يتحقق مثله فى دول إجماع واشنطن، وبمنظومة السياسة الخارجية، حققت الصين انتشارا وكسبت مصداقية لدى عشرات الدول فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وضاعفت نفوذها فيها.

سنوات قليلة ونكون شهودا على مرحلة جديدة تتبوأ فيها الصين مكانة استحقتها، بفضل رؤى ثاقبة، وحسابات عقلانية، وحسن استخدام للموارد، وجرأة فى تشغيل مصادر القوة، وحكمة فى توظيف الشعور القومى لخدمة الأهداف بعيدة الأمد. ومازال صديقنا المسئول المصرى مصرا على أنها كلها «عنتريات صينية».




هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved