سوريا وصوت الحرية

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الخميس 10 مارس 2016 - 8:32 م بتوقيت القاهرة

لا أدرى كيف نقرأ الإشارات الآتية من سوريا؟

نقرأ أى نصمت ونصغى ونتوقف عن إلقاء الدروس.

تعالوا نرى كيف يستعيد الشارع صوته ببطء من خلف حجاب الموت كى نفهم أن المسألة أكثر تعقيدا من افتراضات النظام أو داعش أو القوى الاقليمية والدولية، بأن الألم والأسى والدمار، حولت فكرة الحرية إلى ركام، وأخرجت الشعب السورى من المعادلة. كان يكفى أن يكون هناك وقف جزئى لاطلاق النار، كى يعود الصوت السورى إلى الشوارع، معلنا حقيقة بسيطة وواضحة، بأن الشعب السورى لن يذل.

شىء يشبه الأعجوبة، ففى لحظة فاجأت الجميع، عاد صوت ابراهيم القاشوش ليرتفع فوق ركام المدن والبلدات، ومعه عاد صوت النضال من أجل الحرية كى يعلو على القمع والغدر والخيانة. لا أريد تضخيم الأشياء، فبعد التهجير والتدمير، صارت العودة إلى براءة البدايات شبه مستحيلة. فالانتفاضة الشعبية السورية ووجهت بما لا قدرة لها على مواجهته وحيدة، اذ ترافق بطش النظام ووحشيته مع لا مبالاة دولية و«دعم» اقليمى، حول سوريا إلى ملعب للصراع، وحاول وأد ثورة شعبها وتحطيم الحلم الديمقراطى بنماذج استبدادية بديلة.

المظاهرات التى جرت، على صغر حجمها، تحمل دلالة بسيطة وواضحة، هى أن ما جرى فى المشرق العربى منذ بدايات «الربيع العربى»، لا يمكن طيه أو القفز من فوقه. هناك انجاز صغير يتمثل فى أن الناس تمردت وعرفت معنى أن تعبر وتستمع إلى صوتها. لذا لا قدرة لأحد على اعادتها إلى بيت الطاعة.

الثورة المضادة اتخذت اشكالا عدة، من الانقلاب المصرى، إلى التدمير السورى، إلى جنون البتروقراطيا الدموى والأصولى، إلى المشروع التوسعى الايرانى والهوس العثمانى واللؤم الإسرائيلى الأمريكى. هكذا يعيش الشعب السورى ليله الطويل، سفاحو سلطة البعث ومعتوهو «فقه الدم»، تناوبوا على اخضاع سوريا للاذلال، وشردوا الناس ودمروا المدن والقرى. ليل لا تضيئه سوى البراميل المتفجرة وطائرات الموت، وسفن اللاجئين الهاربة إلى بطن الحوت.

قد يكون الربيع العربى شتاء دمويا مثلما كتب البعض، لكن دمويته كانت ضد الناس ومن أجل قهرهم وتحطيم ارادة الحياة فيهم.

***
تُرك السوريون لمصيرهم بين أيدى الوحوش التى تناتشت بلادهم، كل وحش اعتقد فى نفسه القدرة على الاستئثار بالضحية، فدخل وحوش هذا الزمن العربى المُنقلِب فى رقصة موت جماعية، سوف تطيح بهم فى نهاية الأمر.

كان يكفى أن يسكت الرصاص والقذائف كى يرتفع الصوت من جديد: الشعب يريد اسقاط النظام، وكى تعود شعارات كفرنبل لتحتل مكانها فى خريطة مقاومة الألم بالصبر والصمود والسخرية.

جاء الروس بطائراتهم كى يدعموا نظاما يترنح، معتقدين هم ايضا، بصفتهم آخر موجات الغزاة التى ضربت بلاد الشام، أنهم قادرون على تدجين شعب أرهقه الموت، لكن فى لحظة وقف النار الجزئية، اكتشفوا أن لا شىء يستطيع حماية نظام لم يعد موجودا الا كظل لنفسه الغاربة.

لا أدرى ماذا سيستنتج سفاحو النظام وقتلة تنظيمات «فقه الدم» من هذه النصف هدنة؟ من المؤكد انهم اصيبوا بالذهول، لأنهم توقعوا شعبا من الأشباح وكتلا بشرية هائمة تستجدى المعونات.

هل سيستنتجون أن الحرب وحدها هى وسيلتهم إلى البقاء؟

وهل كانت عقود استبداد حافظ الأسد سوى حروب لم تتوقف ضد الشعب السورى بمختلف فئاته؟

نظام كانت نقطة قوته الوحيدة أنه جلب «الاستقرار» إلى سوريا، فاذا بهذا الاستقرار المزعوم مجرد ستار يحجب حربا دموية طاحنة دارت فى الشوارع والبيوت والسجون، حطمت العظام مثلما حاولت تحطيم الارادات.

الانتفاضة الشعبية السورية كانت فى أحد وجوهها محاولة لايقاف حرب الاستباحة ضد الشعب، وتحكم المافيا وطبقة النهب بكل شىء، فلم يكن الجواب سوى اشعال حرب شاملة ضد الناس، ما لبثت أن توسعت محولة سوريا إلى أرض للخراب.

المظاهرات التى أعادت الينا شيئا من الأمل ليست نهاية المطاف للأسف. فلو كان للمطاف نهاية لامتنع الجيش السورى عن قتل الشعب، مثلما يفعل أى جيش فى العالم، الا اذا جرى تغليب منطق الميليشيا على منطق الدولة.

هذا المطاف مسار رهيب لا نعلم متى وكيف سيستقر على حال، والأثمان التى يدفعها الناس لا تحتمل، والأفق لا يزال مقفلا.

لكن ما قالته لنا سوريا فى الأيام القليلة الماضية هو أن الناس لن تذل حتى ولو حاصرها الذل من كل جانب، وأن على المهتمين بالشأن العام التوقف عن اهدار الكلمات واعطاء الدروس. وقفة مع متظاهر وعمل فى مخيم للاجئين ومساعدة للنازحين وتماه مع دمعة طفل سورى، هى أشرف من كل كلام يدعى معرفة وهو لا يعرف شيئا.

قالت سوريا من خلف حجاب الأسى إن حريتها لن تموت، وأنا أصدقها.
  
إلياس خورى
  
القدس العربى ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved