نقاش حول الديمقراطية

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 11 مارس 2018 - 11:07 ص بتوقيت القاهرة

فى الأيام الثمانية الأخيرة، على نفس هذه الصفحة ثم فى جريدة «الأهرام» بعدها بأيام كانت الديمقراطية موضوعا لمقالين لاثنين من دارسى علم السياسة اللامعين، وإن فصلت بينهما أجيال. المقال الأول «الموجة الأولى للتحول السلطوى» تلاعب كاتبه الدكتور أحمد عبدربّه بعنوان كتاب «الموجة الثالثة» الصادر فى بداية التسعينيات من القرن العشرين والذى حلل فيه مؤلفه صامويل هانتجتون أسباب التطور الديمقراطى الذى طرأ على بلدان جنوب أوروبا وأمريكا الجنوبية ثم وسط وشرقى أوروبا فى العقود الأخيرة من القرن الماضى، وهو تعبير «الموجة الثالثة»، أوحى لكثير من الدارسين والمنظِّرين، ومعهم الساسة والناشطون فى سنة 2011 بأن ثورات تلك السنة كانت إيذانا «بموجة رابعة» للتحول الديمقراطى فى العالم العربى. الدكتور عبدربّه عَكَسَ اتجاه الموجة واعتبرها موجة أولى للتحول السلطوى، ساخرا من العنوان الأصلى وآسفا على اتجاه التحول الجديد.

المقال الثانى للدكتور عبدالمنعم سعيد حمل عنوان «الطريق الصعب إلى الديمقراطية» وهو استعرض فيه ضعف البنى الديمقراطية فى مصر منذ نشأة ما يعتبر نظما سياسية حديثة فيها اعتبارا من سنة 1923، وكان من أهم ما فى المقال تشديده على أن دستور سنة 2014 اختار لمصر وبوضوح الطريق الديمقراطى، فلا حديث فيه عن «مستبدّ عادل» ولا عن «نظام الحزب الواحد»، وهو ما يمكن اعتباره ردّا على أولئك الذين يستهينون فى الوقت الحالى بالديمقراطية أصلا ويرفضونها من حيث المبدأ لكى تنظّم حياتنا السياسية. المقال وبعد أن اعتبر أن «مؤسساتنا لا تعمل بالطريقة التى يجرى بها العمل فى العالم»، أى أن مؤسساتنا لا تتبع السبل الديمقراطية التى تأخذ بها نظيراتها فى البلدان الديمقراطية، اقترح سبلا للعبور بين الواقع السياسى والمثال الدستورى، وأخيرا فهو عدّ هذا العبور ممكنا «حتى نتجاوز اللحظة الراهنة، والمهم هو ألا نتأخر كثيرا». باختصار الدكتور عبدالمنعم سعيد رأى أن الانتقال إلى الديمقراطية ضرورى فى مصر، وهو ضرورى دون تأخير.
***

ما الذى يفعله المنادون بالديمقراطية فى مصر إزاء الإشكاليتين اللتين أثارهما الكاتبان؟ الدكتور عبدربّه، الذى وعد بمواصلة الكتابة فى الموضوع، أشار إلى أشكال التراجع الديمقراطى وزحف مظاهر السلطوية حتى فى أعتى الدول الديمقراطية فى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. هذا الزحف صحيح ولكن هل نسلِّم له؟ استسهال التسليم مغرى خاصةً أننا لم نصلّ حتى للنموذج الديمقراطى الذى كان راسخا ثم ها هو يتعرّض للضربات فى البلدان التى كان الاعتقاد أن الممارسة الديمقراطية قد استقرّت فيها. والمنطق وراء الاستسهال يتجدد: مقايضة الديمقراطية وما تعنيه من تضييع الوقت فى النقاش والضغوط المتبادلة بسرعة الإنجاز ووعود رغد العيش الذى نكاد نلامسه.

الواجب علينا هو ألّا نسلِّم بل أن نخوض فى الجدل بشأن الديمقراطية، وهى، مع الاعتذار عن تكرار الأبجديات، أن يحكمَ الناس أنفسَهم بأنفسِهم ولصالحِ أنفسِهم. المسألة ليست هياكل تُستَوفى، مثل مجلس النوًاب مثلا، وإنما وظائف تؤدَّى، مثل مراقبة من ينفِذّون، والتشريع لصالح الناس وللحفاظ على حرياتهم وحمايتهم من البطش بها. هياكل المراقبة والتشريع الممثلة للشعوب يمكن إعادة تصميمها وتوزيع صلاحياتها، ولكن المهم هو أن يوجد ثمة من يمارس هذه الوظائف. ولكن الظروف التي تُمارس فيها هذه الوظائف تغيرت وأصبحت معاكسة لها ولمن يرغب فى الاضطلاع بها، قد يقولُ قائلٌ: نعم، لا سبيل إلى إنكار ذلك. مجرد التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعى اللذين يمنحان السلطة، فى غياب الرقابة الفعلية عليها، القدرة على إحكام السيطرة على الناس وإخضاعهم تحدٍ غير مسبوق، ولكنه يجعل المقاومة أدعى ومعها البحث فى سبيل تطويع الديمقراطية لظروف العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين.

فى البلدان التى كانت راسخة ديمقراطيا، عثرات الديمقراطية وعوائقها مسألة تشغل المنظِّرين والباحثين والسياسيين والمواطنين المنزعجين من زحف القوى العنصرية، والفاشية، وشبه الفاشية الشعبوية، والنعرات القومية المتعصبة. لا ينبغى أن نترك هؤلاء يخوضون وحدهم الجدال والمعارك الفكرية بشأن حكم الناس لأنفسهم بأنفسهم، وبخصوص التعايش والتلاقى والاندماج بين المختلفين لونا أو دينا أو عرقا أو جنسيةً، أو جنسا، وأن نبقى فى مقاعد المتفرجين نطبّق ما قد يصلون إليه أو نأخذ بالآليات الديمقراطية القديمة التى أصبح خصوم الديمقراطية خبراء عتيدين فى تكسيرها.
***

سببٌ أساسى لضرورة أن نشترك فى البحث عن تطويع حكم الناس لأنفسهم لظروف عالم اليوم أن الضحايا الأُوَل لغلبة الفاشية وشبه الفاشية الشعبوية والعنصرية ستكون بلداننا وناسنا الذين يعملون ويعيشون فى البلدان التى بدت الديمقراطية ثابتة فيها حتى تقدّم خصومها فيها هى أيضا. انظر إلى نتائج انتخابات إيطاليا الأخيرة ومن قبلها ألمانيا والنمسا وفرنسا، وتعجب من الأمثلة القصوى لبولندا والمجر والتشيك. والحديث قد يطول عن ملهاة الحكم الحالى فى الولايات المتحدة. فى كل الحالات القوى التى نخرت فى عظام الديمقراطية هى من أشدها عداءً لثقافتنا ولتاريخنا وتعاليا عليهما، وهى تنظر إلى الجنس البشرى تراتبيا، وتعتمد خطابا عنصريا قوامه كراهية الأجانب. الشيء المؤسف هو أن بيننا من يصادق بعضا من هذه القوى، وهى صداقة قد تكون راجعة إلى خصومة مشتركة لمثل الديمقراطية. رئيس وزراء المجر صرح مؤخرا بأننا «نريد الحفاظ على لوننا»! هكذا بكل جرأة. ولمن يمكن أن يكون عنصريا من بيننا، نسارع إلى القول بأن اللون الذى يريد أن يحمى المجريين منه هو لونُ السوريين والعرب، وهو لونٌ حتى أفتح من لون المصريين!

السبب الثانى لضرورة أن نخوض الجدال والتفكير فى تطويع حكم الناس لأنفسهم لظروف القرن الحادى والعشرين هو أن نضع حدا للادعاء بأن الديمقراطيةَ زرعٌ غريبٌ علينا، لا يخصنا، بل هو لتربة غير طينتنا. هذه نظرة استشراقية. الاستشراق منظور نشأ لتبرير الاستعمار ولمنحه وجها «أخلاقيا». حكام كثر فى بلداننا وجدوا فيه ضالتهم، بل وسوّقوه على أنه مصدر للفخر وتعبير عن عدم التبعية، وفى حقب متتالية طوعوه وجعلوا منه مبررا وتفسيرا «أخلاقيا» لئلا يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم. باشتراكنا فى تحديث الديمقراطية، سيثبت أنها ملك لنا مثلما هى لغيرنا. هل ادعى العرب أن «الصفر» ملكُهم وأنه ليس لأحد أن يستخدمه؟ هل رفض الآخرون استخدام «الصفر» والتقدم فى الرياضيات لأنه من اكتشاف العرب؟ هل نأنف نحن عن ركوب الطائرات التى تعاكس الجاذبية الأرضية لأنها اخترعت فى غير ثقافتنا؟ أو هل نرفض الخضوع لتصوير أجسادنا بالرنين المغناطيسى لأنه بدعة لم يعرفها علمُنا ولا تراثُنا؟

السبب الثالث هو أنه لا بدّ أن يضمَّ كل الديمقراطيين صفوفهم كما يتآلف خصوم الديمقراطية. هؤلاء يشعرون بالود تجاه بعضهم البعض ويكوّنون عن وعى أو غير وعى تآلفات ويعتبرون تقدم أى منهم تقدما لهم جميعا. أقل ما يمكن عمله هو أن تخصِّب أفكار تحديث الديمقراطية بعضها البعض وأن يعلم أنصارها فى بلداننا وفى بلدان الجنوب النامية فى العالم عموما، أيا كانت ثقافاتها، أن عليهم أن يجدّوا فى تنقية نفس التراث الديمقراطى فى العالم المتقدم مما لحقه من شوائب استعلائية واستغلالية أثناء الحقبة الاستعمارية. وفى هذا المقام، وعلى الرغم من مآزق الديمقراطية فى العالم المتقدم المشار إليها أعلاه، فإنه من المهم التشديد على أن أنصارها ما زالوا الأغلبية.
***

على أنه مهما فعل الديمقراطيون فى الجنوب والشمال فإنهم لن ينجحوا فى مسعاهم إلى حكم الناس لأنفسهم وإلى تأكيد مبادئ العدالة والمساواة ما لم يتصدّوا لإصلاح جذرى للنظام الاقتصادى العالمى وللأنظمة الاقتصادية الداخلية التى يشملها. إن اكتمال الموجة الثالثة للتحول الديمقراطى بانضمام دول ما كان المعسكر الاشتراكى إليها أصبح ممكنا نتيجة لانهيار الشيوعية. بعدها بسنوات تراجعت الاشتراكية الديمقراطية بدورها، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام سياسات اقتصادية أدّت إلى الاتساع المستمر فى الفجوات بين الدخول والثروات. الاقتصادى الفرنسى توما بيكتى أشار فى كتابه عن «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» إلى أن توزيع الثروة فى البلدان الأوروبية وغيرها عاد إلى النمط الذى كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى. هذه السياسات صاحبها خطابٌ أبعد الأنظار فى كل البلدان، المتقدمة والنامية معا، عن مسألة توزيع الدخل وعن مصالح المجموعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة والمتباينة، وهو ما فتَحَ المجال فسيحا أمام الترويجِ للهوياتِ العرقيةِ والعنصريةِ والمتطرفةِ قوميا ودينيا كمحددةٍ لتوزيع القِيَم والمصالح، ونفَخَ فى روح التنظيمات الفاشية وشبه الفاشية الشعبوية التى ترفع لواءها. وجلّيٌ أن الإرهاب بعض الأنحاء، خاصة فى بلداننا، قد تغذّى على نفس مفاهيم الهويات الإقصائية. العلاقةُ وثيقةٌ تماما بين السياسات الاقتصادية التمييزية التى تستأثر فيها القلة بأغلبية ثمار النشاط الاقتصادى وتنفرد فيه نفس القلة، أو واحدة قريبة منها، بمعظم السلطة السياسية.

من مصلحة جميع الناس وفى كل مكان أن ينعتقوا من الوصاية وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. قضية الديمقراطية واحدةٌ والنضال من أجلها ضرورى بما فى ذلك، وخصوصا، على المستوى الفكرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved