والغلبة لنا

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 10 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لا أكاد أتعرف على المكان. آخر مرة دخلته كانت البوابات الكبيرة مفتوحة على مصراعيها، والناس أعدادا تدخل لتقديم العزاء فى راحل عزيز هو الأستاذ الدكتور فتحى اسكندر. كان الفناء المتسع يبرق بالنظافة، والشباب يرحبون بالمتوافدين ويوجهونهم إلى أبواب الدخول، كل شىء منظم منتظم وكل حركة تتسم بالوقار، والمشهد جليل؛ الحزن والمحبة فيه يمتزجان. أما مساء الأحد فالبوابات موصدة؛ دخلنا من باب خلفى ضيق يحرسه شباب غاضب، يدققون ــ ولهم كل الحق ــ فى هوية من يأتى لهم. الفناء تتناثر فيه الحجارة والطوب المتهشم. أوراق تتطاير. الناس أيضا تتناثر وتتطاير فى مجموعات صاخبة، أو تجلس صامتة على السلالم أو حواف الأرصفة. الكل شاحب مرهق. البعض مضمد الرأس. كلمة «ستالنجراد» تظهر فى مخيلتى مكتوبة على خلفية مشهد من فيلم أبيض واسود. الهواء مترب ولا زال يحمل حرقة الغاز تغزو الرئة وتدمع العين. فى وسط الفناء مجموعة من حوالى عشرين شابا يصلون، يرتلون، يستديرون يمينا: كيرى إلايسون، كيرى إلايسون، ويسارا: كيرى إلايسون، كيرى إلايسون … كثيرون يرحبون بنا، يشكروننا على المجىء فنذوب خجلا، نقرر ونعيد ــ هنا فى بيت أول شهداء المسيحية فى مصر، القديس مرقص الرسول ــ إن الشأن شأننا والشهداء شهداؤنا.

 

أرى على السور العالى إلى اليمين جمهرة من ــ من الأطفال ربما؟ أو على أى حال الشباب الصغير السن جدا، يروحون ويجيئون على السور العالى العريض، فى مواجهة واضحة ومستمرة مع الشارع تحتهم، يهتفون «بالروح، والدم، نفديك يا صليب»، فيجيب من فى الشارع بطلقات ــ يؤكد لى رجل إلى جوارى أنها طلقات «صوت» فقط ــ فيجيب أطفال السور بصواريخ تضىء الحوائط بالأخضر والأحمر. أطفال آخرون على البرج الصاعد من السور يدلون سبتا ويرفعونه فيما يبدو لى نشاطا عشوائيا. بعد فترة أرى مجموعة تحمل أحدهم وتجرى عبر الفناء.

 

نعبر نحن أيضا الفناء وندخل إلى المسرح الكبير الذى نعلم انه استعمل مستشفى ميدانيا أثناء النهار. الناس تجلس فى مقاعد الجمهور منهكة. سيدات قليلات الحجم شائبات الشعر فى ملابس سوداء. على الجدران وواجهة المسرح بقايا زينة احتفالية لامعة، وفى زاوية عالية إلى يسار المسرح صورة للبابا تاوضروس الثانى ملصق بها خمس بالونات. يجلس رجل إلى جانبى وندخل فى حديث يتطور إلى أن يحكى لى تفاصيل عن الفساد فى الصاغة فى ختم الذهب، ويحسب لى ماذا يمكن أن يقدم المال المهدر كل أسبوع للتعليم والصحة فى مصر.

 

فى مصر. كيف يمكن أن يحدث ما حدث فى مصر؟ كيف يمكن أن يحدث ما حدث لكاتدرائية القديس مرقس، مقر بابا الإسكندرية والكرازة المرقصية؟ أن يضرب أمن مصر الكاتدرائية المصرية بقنابل الغاز يوم تشييع جنازة مواطنين من شعب الكنيسة.

 

يتساءل شباب أسرتنا، الذى لم يعش إلا عصر مبارك، متى كان ذلك «الزمن الجميل» الذى كان فيه المسيحيون والمسلمون ينعمون بقلوب خالية من النزعات الطائفية؟ هل كان ذلك الزمن حقا؟ أقول الله وحده يعلم ما فى القلوب، لكن الكل يسمع خطاب الدولة ويرى أعمالها، وأعود إلى تاريخ هذه الكاتدرائية فأرى أن الدولة المصرية تبرعت ــ عام ١٩٦٥ ــ بمائة ألف جنيه مساهمة فى بنائها، وأن حجر الأساس وضعه ــ فى نفس العام ــ رئيس الجمهورية والبابا معا، فى حضور «الآباء الأحبار المطارنة والأساقفة والسادة نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ونوابه والوزراء وكبار رجال الدولة» وأن الجماهير أخذت مكانها فى «السرادق الكبير الذى أنشأ خصيصا ليسع عددا ضخما من الشعب». وبعد ثلاثة أعوام وفى ٢٥ يونيو ١٩٦٨، احتفلت الكنيسة احتفالا ضخما باسترداد بعض من رفات «كاروز مصر العظيم، القديس مار مرقس، رسول المسيح إلى أرض البركة، مصر»، ووضعه فى بيته فى الكاتدرائية المصرية. وحضر الاحتفال، مرة ثانية، رئيس الجمهورية، كما حضره الإمبراطور هيلاسيلاسى، إمبراطور أثيوبيا، وكبار رجال الكنيسة من مختلف دول العالم، وأعداد غفيرة من الشعب، و«نقل التليفزيون المصرى، والإذاعة، هذا الاحتفال الكبير على الهواء مباشرة». (عن موسوعة «تاريخ أقباط مصر» http://tinyurl.com/csz2yh9).

 

واليوم، وبعد أكثر من ألف وتسعمائة عام من تأسيس الكنيسة فى مصر، تضرب شرطة الدولة الكاتدرائية المصرية بقنابل الغاز. هذا جزء، بالطبع، من المناخ القمعى المتوحش العام الذى يفرض على البلد، والذى لا يعترف بحدود ولا بأصول وأعراف، ففى الليلة السابقة كان نفس الأمن يضرب المتظاهرين بالغاز والخرطوش من نوافذ دار القضاء العالى فى سابقة أخرى.

 

نرصد بعض الملاحظات:

 

١ــ وُجِد من حاول، فى أول اليوم، تسخين الناس ودعوتهم للتوجه فى حشد كبير إلى وزارة الدفاع ليدعوا الجيش لـ«إنقاذ البلاد». ولم يستجب للدعوة عدد يذكر.

 

٢ــ هناك شهادة على فيس بوك تقول:

 

عندما وصلنا للتجمهر المتواجدأمام الكنيسة بجوار مدرعات الأمن التى ظننا انها تهاجم أحدا فى الشارع المجاور للكنيسة، وجدنا شخصا من داخل الكنيسة يعلو جدارها ويحاول تهدئة المدنيين المجاورين للأمن ووقف إلقاء الحجارة داخل الكنيسة، إلا ان واحدا من المتواجدين قام بإطلاق الخرطوش عليه مما ترتب عليه وقوعه داخل الكنيسة، وقام الشخص المعتدى بالرجوع للخلف أمام قيادات الشرطة فصرخ أحد الأشخاص فى وجه أحد الظباط لماذا لا تقبضوا عليه، وحينها «ظاط» زملاؤه المدنيون، وفجأة تدير قوات الأمن وجهها وتكثف من إطلاق الغاز المسيل داخل الكنيسة، وعادالمدنيون معهم إلى إطلاق المولوتوف والحجارة.

 

وأخيرا وصل عدد من قيادات الداخلية فى سيارة دفع رباعى، وإذا بالأمن يظهر قدرته فى إبعاد المدنيين الذين يقول البعض أنهم مؤيدون لهم.

 

٣ــ يجزم الناشطون الذين كانوا يقدمون العزاء فى الكاتدرائية، وشهدوا الأحداث من البداية، بتشابه عناصر الحدث بما جرى فى العباسية (٢) من افتعال الاحتكاك، واستثارة الشباب واستدراجهم إلى الشوارع السكنية وتوريطهم فى مواجهات مع الأهالى، وتواجد الأمن وعزوفه وتدخله الانتقائى، ووجود أفراد لا يرتدون الميرى لكنهم يعملون فى تناغم واضح معه. ويتداول الناس على مواقع الشبكة عددا من الصور لمشاركين فى الحدث بالتحريض وبالضرب يقولون إنهم معروفون من أحداث العباسية، ولمشارك يعرفونه ويظنون أنه من «حازمون».

 

حاول مبارك فى وقته، وحاول المجلس العسكرى فى وقته، إشعال الفتنة الطائفية ضمن مجهوداتهم لتفكيك المجتمع وتأليب الناس على بعضها وتحويل غضبة الشعب وبالا على رأسه. وربما تكون الظروف التى نمر بها الآن هى الفرصة الأكبر لنجاح مثل هذه المحاولات. ولذا علينا أن نحذر، وأن نشحذ قلوبنا بكل ما أوتينا من تنبه وحدس ومحبة، ونُصِرُّ ونُصِرُّ على تنوعنا، ووحدتنا، وإنسانيتنا.

 

غادرنا الكاتدرائية فى الساعات الأولى من صباح الاثنين، وفى طريقنا للباب، خطف عينى فى العتمة والتراب بريق خافت فنظرت ورأيت السيدة العذراء تضىء الجدار. مريم العدرا، الأم الشاهدة على ثورة ابنها ورسالته، وعذابه ومثابرته، واستشهاده وصعوده. مريم العدرا، التى تذكرنا بكل ما هو نبيل وكل ما هو أصيل وكل ما هو باقٍ وبأن كل ما هو نبيل وأصيل وباقٍ هو أيضا إنسانى مشترك، فلنعتصم بحبل الله جميعا، جميعا، ولا نتفرق، والغلبة لنا، والثورة مستمرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved