حول مسألة تجديد الخطاب الدينى


كمال غازي

آخر تحديث: الأحد 10 أبريل 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

- «أن تتحكم فيما يستطيع شخص ما أن يقوله، يعنى أن تتحكم فيما يستطيع أن يكونه».

ــ جينيت ر. مالكين، العنف اللغوى فى الدراما المعاصرة، 1993

منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى، حكم البلاد، عمل على إحياء مسألة تجديد الخطاب الدينى، بعد أن أطاح الجيش بحكم الإخوان المسلمين كرأس لهيمنة إسلاموية تفتخر بسطوتها. ما لبث حينئذ مؤيدو السلطة الجديدة أن أعادوا تكرار الرئيس وألحوا فى استحداث سبل جديدة، والبحث عن خطاب جديد فى الدين «الأهرام، 22 مارس 2016».

بدا أولئك المؤيدون مصدقين بإمكانية تجديد الخطاب الدينى على توسيع الفجوة بين واقع وسطى مزعوم والفكر المتشدد الدينى، فى حين ألقوا بالمهمة على كاهل الأكاديمية الأزهرية التى اعتبرها البعض بالية، وآخر إرهابية «سيد قمنى إلى الأمم المتحدة».

بينما تزاحمت الافتراضات جزافا غاية تحقيق التجديد كضرورة، لم يُنتبه إلى كون مسألة التجديد متعاقبة بُعيد حوادث القتل المروعة التى تستهدف المدنيين والسواح بشكل خاص، إذ تنتسب جميعها لطائفة تعلن دائما عن نفسها. من هنا لم يلتفت دعاة التجديد إلى أن مسألتهم طرف فى المشكلة من ناحيتها العملية، كذلك إلى اتساق مبدأهم مع «الإرهاب» الجهادى فى الأخذ المشترك بحرفية النص الدينى وقدسيته، بالرغم من إصرارهم على النقيض الذى يدركهم قيعان الإنكار.

كان للتكرار فى هذه الحال أن رسخ من المسألة باعتبارها لا مندوحة عنها. وما أحالها فى الواقع إلى ضرورة كان التكرار أكثر منه التجربة عمليا؛ بالإمكان إعادة النظر فى تطبيع الإيمان على عموم الشعب المصرى من خلال ترديد السادات إبان حربه على اليسار فى سبعينيات القرن الماضى، كذلك تطبيع التدين أثناء الحشد الإسلاموى فى مواجهة المد الليبرالى قُبيل استفتاء المجلس العسكرى فى 19 مارس قبل خمس سنوات؛ ما يجرد الجوهر اللغوى «التكرارى» للمسألة.

***

من ناحية عملية لا يعد تجديد الخطاب الدينى شيئا بحد ذاته، ويشترك فى الفقه مع الإرهاب الإسلامى ــ إذا جاز التعبير. تبرر تلك الشراكة التبجح الجهادى فى مواجهة الأصولية الأزهرية؛ من ناحية الإسناد الفقهى فى الحالتين إلى صحيحى الكتاب والسنة؛ الأمر الذى يسبب إحراجا ملحوظا لدى رجال الأزهر المعنيين بتجديد الخطاب الدينى، أو فى هذه الحال، بتجديد الدين؛ كونهم وضعوا جانبا من فقه العنف ولو مؤقتا، وعملوا على تدشين فقه الرحمة والتسامح الذى لا يمثل فارقا حقيقيا من حيث الإسناد الأصولى المشترك، وأشبه بمحاولات متيقظة للهرب من أصول الدين.

يعتمد نسق تجديد الخطاب الدينى المقصود على تبسيط مفرط للحديث عن الله والدين «الإسلام»، السمة المميزة لفقه الأزهر الما بعد حداثى، خاصة عندما كُلف بوقف نمو التيارات المتشددة لدرجة لم تُعهد من قبل؛ يمكن القول بأن السادات أطلقها للقضاء على اليسار والشيوعية، وقد نجح فى ذلك بشكل ظاهر.

هذا الاضطراب الفقهى المتفاقم لخمسة عقود إلى الآن لم يؤت بثماره. وأدى تجنب رجال الأزهر لفقه العنف فى وقت القمع السياسى إلى التعزيز من الفكر المتشدد فى مواجهته، وساعد أخيرا فى إطلاق موجة إلحاد أعمى قادر على إدانة الأزهر كمؤسسة وكأكاديمية، على الرغم من اجتهاد رجاله فى صبغ أنفسهم والفقه الأزهرى بصبغة رُحمانية متساهلة.

كانت محاولة فقهاء الأزهر لطمس المعالم المقدسة للدين التى لم توفق فى مواكبة الزحف العلمى والنظرة الجديدة للعالم منشأ ذلك الاضطراب، لاسيما منذ تسعينيات القرن الماضى. مع أن محدثى الأزهر فى بداية القرن العشرين كانوا رجالات فكر حقيقيين، لا تزال اجتهاداتهم تنضح إلى اليوم بالثمر. لكن فى نهايات القرن نفسه لم يتبق للمؤسسة سوى إهدار دم فودة، وتكفير أبى زيد فى مطلع القرن الحالى، ما أثبت أن سبل الأزهر فى التجديد لم تكن فقط غير موفقة، بل حافلة بالتشدد والإلحاد معا.

ومن التجربة أيضا، أن العداء الذى نشب بين الأزهر وجماعة الإخوان المسلمين ومواليها من السلفيين، انحصر فى النفاذ من الإذعان لقيادة جديدة لا أشعرية، إذ لم يكن الرجال القائمون على المؤسسة على استعداد بعد للتخلى عن التكيف القمعى الذى أسس له عبدالناصر، لدرجة صار رجل الأزهر مادة مقررة للسخرية فى سينما الستينيات. ولذلك كان من الأيسر على قادة الأزهر أن يخضعوا مرة أخرى لنفس الإيديولوجية الشمولية، بدلا عن الوقوف لها.

* * *

تبدو مسألة تجديد الخطاب الدينى سياسية أكثر منها دينية، ومحض إرجاء فقه العنف مرهون بإقرار من السلطة الحاكمة؛ وعلى رأى صديق: «لو قامت الحرب على بلدان العرب لوجدت الأزهر يحث على الجهاد» كما كان يفعل فى عهد الانتداب البريطانى على مصر، وقتما كان راية للمقاومة المدنية، بينما كان الجيش المسلح المصرى لا مكان له فى أرض الواقع، واستمر الوضع إلى أن أُحكمت القبضة العسكرية على قطاعات الدولة قرابة مطلع الستينيات.

يتربع على هذا الأساس فقه ابن تيمية شيخ الإسلام المتشدد، كما يريد مناهضو الأصولية أن يصفوه، دون أن يلتفتوا إلى طبيعة عصره الحافل بالصليبيين والتتار، حيث ارتأى الأولوية للجهاد على التجديد. ولعل القمع السياسى الذى عزز من مسألة تجديد الخطاب الدينى، قد عزز من تعميم التدين قهرا؛ يدلل على ذلك الطموح السياسى والاقتصادى لكافة الحركات الإسلاموية التى تطمح إلى مواجهة الدولة واضعة نصب أعينها أهدافا لا علاقة مباشرة لها بالدين أو بالتدين؛ فى وقت حرمان المجتمع من الفضاء السياسى وإتاحة فضاء ضيق للممارسة الدينية، لم يغن عن تعميم الأضيق على الأوسع، وأشعل بعدئذ نهج العنف الدينى فى السياسية، أمست الدولة حائرة فى وقفه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved