خديعة الحوارات الاستراتيجية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 10 أغسطس 2015 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

لم يكن هناك حوار استراتيجى بأى معنى جدى بين الولايات المتحدة ومصر، أى حوار يستحق هذا التوصيف يستدعى فتح كل الملفات، أين أرضية الاتفاق وكيف نثبتها وأين نقاط الاختلاف وكيف نذللها؟

هذه مسألة رئيسية قبل بناء أية تفاهمات من طبيعة استراتيجية تتأسس عليها خطط وإجراءات وتحركات منسقة تؤثر فى مجريات الأحداث.

هناك فارق بين تخفيض مستوى التوتر الذى نشأ بين البلدين فى أعقاب (٣٠) يونيو وبين تأسيس علاقات لها صفات الصلابة والثبات والثقة، المبالغة فى الأوصاف تضر بسلامة النظر إلى الحقائق.

الاقتراب الأمريكى الجديد يعود إلى اعتبارين رئيسيين، أولهما: الأهمية الاستراتيجية للموقع المصرى الذى لا يمكن الاستغناء عنه.

وثانيهما: استقرار النظام الجديد وضرورات التعامل مع الحقائق على الأرض.

وفق هذين الاعتبارين أفرجت الإدارة الأمريكية عن أسلحة ومالت لغة وزير خارجيتها «جون كيرى» إلى ترميم ما تصدع.

كان مجاملا بأكثر مما هو معتاد لإرضاء رأى عام غاضب من السياسات الأمريكية دون أن تتجاوز المجاملات طبيعتها.

تخفيض لهجة انتقاد الأوضاع الداخلية وملفات الإصلاح السياسى وحقوق الإنسان لا يعنى تنحيتها مستقبلا، فكل شىء يخضع لمقتضيات المصالح المتغيرة.

عندما تستكمل مقومات دولتك الحديثة يمكنك أن تحاور العالم بثقة أكبر فى النفس وتمنع أية ثغرات تستخدم فى الضغط عليك.. هذه حقيقة تستحق التأكيد عليها بلا كلل.

فى الحوار المصرى الأمريكى يصعب الادعاء أنه قد جرى التوصل إلى أية تصورات مشتركة فى ملفات الإقليم المشتعلة.

ولا جرت أية مقاربات تتجاوز العناوين العامة للأدوار الإيرانية المحتملة فوق رقعة الإقليم بعد «اتفاقية فيينا».

ولا أية مقاربات أخرى للأدوار التركية المنتظرة بعد دخولها خط العمليات العسكرية ضد «العمال الكردستانى» و«داعش» والأول أكثر من الثانى.

أى حوار استراتيجى فى ملفات إقليم يمر بحالة سيولة لا مثيل لها يتطلب شيئا من الصلابة، وهذا لم يحدث فى أى ملف.

فى التحركات الدولية والإقليمية هناك أولوية للملف السورى.

الأزمة اليمنية إقليمية حتى الآن ولا تضغط أحداثها على أولويات القوى الدولية.

والأزمة الليبية فى عهدة المبعوث الأممى «برناردينو ليون» إلى حين أية تطورات دراماتيكية تربك الحسابات الحالية.

والأزمة السياسية الداخلية فى لبنان مؤجلة لحين حسم العقدة الكبرى فى الإقليم.

والأزمة العراقية تنتظر حسما عسكريا فى الحرب مع «داعش» بتنسيق أمريكى إيرانى.

والملف الكردى تحت التفاعلات الحادة، «مسعود برزانى» يعلن ضم أراض جديدة إلى إقليم «كردستان العراق» وعملية السلام التركية الكردية تقوضت بالكامل وتهدد بأزمة داخلية عاصفة قبل وبعد الانتخابات النيابية المبكرة، وطهران تتحفز لسيناريوهات ما بعد «داعش» بحضورها الفعلى على مسرح العمليات وفى عقيدتها أن دولة كردية مشروع تفكيك لإيران ذاتها.

فى أية ترتيبات محتملة فإن السؤال الأكثر جوهرية: ماذا بعد الحرب على «داعش».. وأية خرائط جديدة تنتظر الإقليم؟

إذا لم تكن هناك إجابة عن هذا السؤال فإن ما توصف بالحوارات الاستراتيجية أقرب إلى خديعة تحت وهج الكاميرات.

لماذا أولوية الملف السورى؟

لأنه عقدة الموقف فى الإقليم كله، إذا حلحلت أمكن النظر بطريقة جديدة إلى الملفات الأخرى.

فى التقدير الأمريكى لا يمكن حلحلة العقدة السورية دون تفاهمات مع إيران.

المعنى أننا إذا لم نكن طرفا فى التسوية فسوف نكون موضوعا لها.

وقد كان لافتا غياب الخارجية المصرية عن المباحثات الثلاثية الأمريكية الروسية السعودية فى الدوحة، رغم ما يجمعها مع أطرافها من علاقات توصف بالاستراتيجية.

هناك اتصالات مصرية روسية غير معلنة بالشأن السورى لم تصل إلى «تفاهمات أخيرة» على ما قال لى الوزير «سامح شكرى».

وهناك اقترابات مصرية سعودية فى الشأن نفسه لتطويق الخلافات الماثلة دون أن تسفر عن شىء من التفاهم بينما الملف يتأهب لأوضاع جديدة بتفاهمات أمريكية روسية إيرانية محتملة.

بالنسبة إلى القاهرة القضية ليست «بشار الأسد» بقدر ما هى المصير السورى نفسه.

هذه قضية أمن قومى مصرى مباشر بأى معنى استراتيجى أو تاريخى.

ورغم وضوح الرؤية فإنها لم تقدم على أية مبادرة.

المثير أن القاهرة أقرب إلى موسكو من واشنطن فى النظر إلى الأزمة السورية دون أن يوصف هذا الاقتراب بأنه استراتيجى!

إذا لم تكن هناك تفاهمات حقيقية للخروج من الأزمة الدموية التى باتت عبئا على الضمير الإنسانى فإن الحديث عن حوارات استراتيجية أقرب إلى خداع النفس قبل الآخرين.

الأمر نفسه فى الملف الليبى الذى يدخل مباشرة فى الأمن القومى المصرى.

العناوين العامة تصطدم بالتفاصيل الجارية.

كلام عن محاربة الإرهاب دون تحديد أية جماعات نحارب وأية جماعات أخرى تدخل فى العملية السياسية المقترحة.

وكلام آخر عن تثبيت الدولة دون أن يكون واضحا ما الذى نقصده بالضبط، وما إذا كان تسليح الجيش الوطنى الليبى ضروريا لبناء الدولة أم هو ميليشيا من ضمن الميليشيات التى يتعين فرض قيود دولية على تسليحها.

التناقضات فادحة بين الموقفين المصرى والأمريكى رغم ادعاءات الحوار الاستراتيجى.

بذات القدر يصعب إضفاء أية صفة إستراتيجية على حوار «كيرى» مع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجى فى الدوحة.

هناك فارق بين طمأنة الحلفاء فى الخليج من تبعات اتفاقية «فيينا» وأن تكون هناك رؤية واضحة للمستقبل.

لم يكن لدى «كيرى» ما يقوله سوى أن هذه الاتفاقية «الخيار الأفضل لمنع إيران من امتلاك سلاح نووى» ولا ما يفعله سوى أن يشارك الوزراء الخليجيين نفس القلق من السلوك السياسى الإيرانى المحتمل.

هذا كلام لا يليق بدولة عظمى فى حجم الولايات المتحدة.

شراكة السياسات قبل شراكة القلق أهم وأجدى.

ولم يكن الوعد بتسريع إمدادات السلاح والتعاون الاستخباراتى سوى تعبير عن الشراكة الثانية.

لم يمتد الحوار الأمريكى الخليجى إلى ما يجرى تحت الطاولة من تفاهمات محتملة أمريكية إيرانية فى ملفات الإقليم.

بكلام صريح الحوار الأمريكى الإيرانى الوحيد الذى يستحق صفة «الاستراتيجى».

الملفات تفتح والتفاهمات محتملة على مواقف وترتيبات وتسويات بامتداد أزمات الإقليم.

بكلام صريح آخر إيران تتعرض للضغط لتطويع سياساتها وفق متطلبات المصالح الغربية لا مصالحنا نحن.

غير أنه فى كل الاحتمالات لا تراجع عن الاتفاق بشأن برنامجها النووى فى أى مدى منظور.

اللعبة سوف تستكمل حلقاتها، وبعض ما يجرى فى الغرف المغلقة أهم مما يعلن أمام الكاميرات فى الحوارات التى توصف بالاستراتيجية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved