لا تكتم الألم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 10 سبتمبر 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أثناء تدافعنا للدخول سمعنا صوت ارتطام أحدنا بالباب وصرخة «ألم». هكذا تحدد منذ اللحظة الأولى موضوع نقاش هذه الجلسة من جلسات السمر التى تعودنا على عقدها مرة كل شهر. تحدث الطبيب فينا عن الألم مفهوما وممارسة، وتحدث كل منا عن تجاربه الشخصية مع الألم. وانتهت الجلسة بجهد مشترك فى محاولة لفهم حالة «الألم الجمعى»، وفى قصدنا طبعا حالة «أمة تتألم».

•••

فهمنا من حديث الحكيم أن مرضى كثيرين يفشلون فى وصف طبيعة الألم الذى يعتصرهم، ويكاد يدفع بعضهم إلى الجنون. بدأ محاضرته بكلام عن لغة الألم، فللألم، حسب رأيه، لغة خاصة تختلف مفرداتها من شخص إلى شخص آخر، ومن حالة إلى حالة أخرى. أصحاب الصداع سوف يعبرون عن معاناتهم بكلمات مختلفة، وكذلك الشاكون من آلام المعدة والأمعاء والظهر والعظام، ناهيك عن آلام الهواجس والأوهام وآلام الافتقار إلى حب وحنان.

يعترف أطباء بأن مشكلتهم لا تقتصر على جهود ترجمة عبارات من نوع «مصارينى بتتقطع» أو «راسى حتنفجر» إلى لغة طبية، ومنها إلى جهود تشخيص ثم علاج. أحيانا يوجد مريض لا يشكو من آلام ولكن الأشعات والفحوصات تؤكد إصابته بمرض معروف عنه أنه يتسبب فى آلام لا تحتمل. مريض لا يتألم يعنى معضلة للطبيب. وكذلك مريض تعود على الألم فلم يعد يعرف بالدقة معنى الشعور باللا ألم، ومريض تعددت مصادر الألم فى جسده وتداخلت فلم يعد ممكنا تحديد موقع ألم بعينه.

•••

أذكر انبهارى، وأنا طفل، بثقافة الزار. كانت حفلاته تقام بصفة دورية، أو عندما تدعو الحاجة، للتخلص من الآلام، آلام الروح وآلام الجسد. أعتقد بعض الناس فى ذلك الوقت، أن معظم الآلام أوهام، تختفى بطرد الأرواح الشريرة والأفكار الكئيبة عن طريق تقديم القرابين لساكنى باطن الأرض، أى الجن، واستدعائهم لفعل الخير.

•••

أذكر أيضا، قراءات فى تاريخ العصور الوسطى، عصور ما قبل العلم. كان الناس، عندنا كما فى أوروبا وبلاد آسيا وأفريقيا، يعتبرون الألم وثيق الصلة بالخالق. كان الشائع بين العوام بل والخواص أحيانا هو أن الآلام مسئولية من فى السماء يستخدمها لمعاقبة العصاة والخارجين عن «الشرع» والأعراف الدينية. كانت الكنيسة فى أوروبا تباشر بنفسها متابعة الآلام، فهذه هى إرادة الخالق، حسب زعم كهنوت ذلك الوقت. لم يختلف الأمر فى الثقافة الشعبية الأفريقية، عنه فى الثقافة المصرية، عنه فى الثقافة الهندية، فالآلهة تبتلى العباد بالألم تطهيرا لأرواحهم وتستخدمه معيارا لقياس إيمانهم. هى فى الوقت نفسه، تدربهم ليتأهلوا ليوم العذاب العظيم، حيث الآلام التى لا يتخيلها بشر. ثم لماذا لا نصمد ونتحمل الألم، ألم يلقن الناس أن الآلام مفيدة للروح، ولابد من شكر الآلهة على نعمة الألم؟!

استمر ارتباط الدين بالألم فى أذهان الناس إلى عقود متقدمة فى الثورة الصناعية والعلمية. المعروف مثلا أن رجال الدين دخلوا معارك عديدة للإبقاء على قاعدة تحريم التخدير حتى بعد أن صارت العمليات الجراحية إجراء طبيا معتادا. قيل للمؤمنين والمتدينين عموما، حذار من الموافقة على التخدير قبل إجراء العملية الجراحية، لأن المريض إن مات أثناء الجراحة فسوف يقابل ربه مخدرا، وهذا إثم عظيم، عقابه الجحيم والآلام الأبشع من آلام جراحة دون تخدير.

•••

واصل الحكيم حديثه ناصحا إيانا ألا نكتم الألم. التصريح بالألم ضرورى لمساعدة الطبيب فى تشخيص المرض. بل إن مجرد التصريح بالألم قد يكون فى حد ذاته علاجا للشخص ووقاية للمجتمع، فالإعلان عن الألم الناتج عن عمليات التعذيب فى السجون وأقسام الشرطة قد يقلل من فرص استخدامه أداة لحفظ الأمن والنظام ويدفع إلى استخدام أدوات إنسانية. من ناحية أخرى قد يؤدى إلى الثورة ضد القمع وإلى الارتقاء بالسياسة والمواطن. نعرف أيضا أن الصراخ بسبب آلام الجوع دافع قوى للبحث المشترك عما يسد الرمق، وأن الشعور بألم المهانة الناتجة عن الاحتلال الأجنبى حافز للمقاومة.

إن كتم الألم أو التكتم عليه، يدفع المتألم إلى تفضيل التوارى والانعزال، وإلى ما يسمى بالإقصائية الذاتية. كما أنه لا يخفى أن كتم الألم أو التكتم عليه لمدد طويلة يساعد فى صبغ إنسان، أو أمة، بصبغة الاستسلام واليأس وفقدان الرغبة فى السعادة والحياة الكريمة.

خفف من الألم بالإعلان عنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved