من قتل ناجى العلى؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 10 سبتمبر 2017 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

أسئلة التاريخ المعلقة على مجهول لا تسقط بتقادم السنين وغياب أبطال الحدث عن مسارح الحياة.
قبل ثلاثين سنة اغتيل فى أحد شوارع لندن بمسدس كاتم للصوت رسام الكاريكاتير الفلسطينى «ناجى العلى»، وكان ذلك حدثا مزلزلا فى العالم العربى.
بقدر تعبير رسوماته عن المأساة الفلسطينية فى الشتات والمخيمات وخلف الجدار وداخل ما تبقى من وطن يقاوم اكتسب شعبية استثنائية امتدت إلى العالم العربى كله.
هو ابن جيل عاين نكبة (١٩٤٨) ونزح مع من نزحوا إلى المنافى واحتفظ وجدانه الصبى بمشاهد المأساة.
من نفس المعاناة ولدت ظاهرة شعراء الأرض المحتلة وروائييهم الكبار، وكان فريدا بميدانه الفنى فلا أحد ينازعه المكانة التى وصل إليها.
عندما تسأل اليوم عمن يتحدث باسم الجرح الفلسطينى ويمتلك قوة الإلهام العام فإنك أمام ما يشبه التجريف الكامل.
لم يكن اغتيال «العلى» حدثا عابرا، فقد اهتزت معانٍ كبرى وسممت البيئة السياسية.
شىء ما عميق كسر فى المعادلة الفلسطينية اتصل تحت السطح بما جرى بعده فى «أوسلو» من تنازلات فادحة.
الرموز تسبق ــ أحيانًا ــ الحوادث.
وقد كانت شخصية الطفل الفلسطينى «حنظلة»، التى ابتدعها تعبيرا عن رفض كل تنازل أو استخفاف بأى حق، مقلقة لقوى وشخصيات نافذة بقدر ما هى ملهمة للفلسطينيين العاديين.
‫«‬لا أعرف متى تعرفت على ناجى العلى، ولا متى أصبحت رسومه ملازمة لقهوتى الصباحية الأولى، ولكننى أعرف أنه جعلنى أبدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة».‬‬‬
‫«‬قل إنه هو الذى صار يحدد مناخ صباحى، كأنه فنجان القهوة الأول، يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلنى على اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد، الذى سيعيد طعن قلبى، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشرى، مخيف ورائع هذا الصعلوك.. إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطينى واسع القلب، ضيق المكان، سريع الصراخ وطافح بالطعنات».‬‬‬
هكذا وصفه مبدع فلسطينى آخر هو الشاعر «محمود درويش» فى واحدة من أعمق نثرياته ألما، كان يدافع عن نفسه متأخرا بعض الشىء.
فى ذلك الوقت تردد على نطاق واسع، سياسيا وإعلاميا، أن الزعيم الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» هو المسئول الأول فى هذا الاغتيال، فقد ضاق صدره بما يرسمه «العلى»، خاصة أن إحدى رسوماته الأخيرة أشارت بالاسم إلى صحافية عربية لها نفوذ كبير داخل منظمة التحرير الفلسطينية، تأمر وتنهى فى شئونها، بسبب صلات خاصة.
حاصرت «عرفات» التهمة الخطيرة، وكان تزامن الرسم مع الاغتيال صلب حيثيات الاتهام.
الاتهام نفسه حاصر «درويش» على خلفية رسم كاريكاتيرى آخر، قبل الاغتيال مباشرة، وصفه بـ«محمود خيبتنا الأخيرة» باستيحاء عنوان قصيدته «بيروت خيمتنا الأخيرة» اعتراضا على ما دعا إليه من فتح حوارات مع اليسار الإسرائيلى.
‫«‬كلمته معاتبا فقال لى: لقد فعلت ذلك لأنى أحبك ولأنى حريص عليك من مغبة ما أنت مقدم عليه… أخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران».‬‬‬
‫«‬كان غاضبا على كل شىء، قلت له: مهما جرحتنى فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة.. أذكر تلك المكالمة لأن صناعة الشائعات السامة قد طورتها من عتاب إلى تهديد، طورتها ونشرتها إلى حد ألزمنى الصمت، فقد ذهب الشاهد الوحيد دون أن يشهد أحد أنه قال ذلك».‬‬‬
لم يخف «درويش» اختلافه مع نهج «العلى»، فـ«قلبه على ريشته، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأى شىء حسابا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التى لا يحق لأحد أن يجتهد فى تفسير ديانتها، فهى لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة من النهر إلى البحر.. وإلا فلن يغفر لأحد ولن ينجو أحد من تهمة التفريط».
فى هذه الصياغة ‫نزعتان متناقضتان بين مبدعين كبيرين، أولاهما ـ حادة ومباشرة وغير مستعدة لأى مساومة.. وثانيتهما ـ براجماتية تطلب التوازن بين المبدأ والواقع.‬‬‬‬
قد يكون «درويش» لوح بشىء من التهديد فى الاتصال الهاتفى النادر بينهما لكنه يصعب تخيل تورطه فى تلك الجريمة التى هزته من أعماقه: «إن ناجى العلى لنا، ومنا، ولنا.. ولنا».‬
بعبارة بليغة أخرى: «ليس من حق سفاحى الشعب الفلسطينى أن يسرقوا دمعنا، ولا أن يخطفوا منا الشهيد»... فـ«حين استشهد ناجى العلى سقطت عن قلبى أوراق الأغانى لتسكنه العتمة».‬
فى تلك المرثية المتأخرة، التى تزاوج فيها الحزن العميق على رحيل موهبة جامحة والتبرؤ النهائى من أن يكون طرفا فى الجريمة وبعض النقد لنهج «ناجى» فى الفن والحياة يستلفت الانتباه أنه وجه دفة الاتهام إلى إسرائيل.‬
«كان الأعداء يسترقون السمع إلى هذا الخلاف، كانوا يضعون الرصاص فى المسدس، كانوا يصطادون الفرصة».‬
«إن اغتيال ناجى العلى فى لحظة الخلاف العائلى العابرة هو جريمة نموذجية أتقن الأعداء صناعتها».‬
هذا احتمال وارد، لكنه ليس مؤكدا.‬
بشهادة الوقائع لم يكن الخلاف عائليا ولا عابرا بقدر ما كان عميقا فى المناهج والتصورات.‬
الاتهامات الظنية سيدة الموقف، لها أساس فى سياق الحوادث، لكنها لا تصلح بذاتها عنوانا على الحقيقة.‬
بعد سنة من اغتيال «ناجى العلى» نشر شاعر العامية المصرى «عبدالرحمن الأبنودى» ديوانا كاملا فى رثائه بعنوان: «الموت على الأسفلت» تنبأ فيه بأنه لن تكون هناك إجابة على سؤال التاريخ المعلق: «ولو اتقتلت.. أوعى تسأل مت بأنهى يد».‬
وبعد أربع سنوات أخرى تعرض اسم الضحية المغدور بها إلى تنكيل معنوى وإعلامى ممنهج وواسع فى مصر، ونكل بذات الوقت بالفنان «نور الشريف» والتشهير به على خلفية إنتاج وبطولة فيلم سينمائى يحمل اسم «ناجى العلى» من إخراج «عاطف الطيب».‬
تجاوز الهجوم كل حد واتهم «الشريف» بالخيانة الوطنية لدفاعه عن القضية الفلسطينية، دون أدنى دليل نشر أنه تلقى (٣) ملايين دولار من منظمة التحرير الفلسطينية لإنتاج هذا الفيلم.‬
لم يكن ذلك صحيحا من قريب أو بعيد، فقد طلبت قيادة المنظمة رسميا من الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» منع عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة، خشية أن يكون تضمن اتهاما لها، وهو ما لم يشر إليه الشريط السينمائى.‬
لا يملك أحد توجيه اتهام على مثل هذه الدرجة من الخطورة دون أن يكون هناك ما يثبت.‬
البحث عن الحقيقة فى اغتيال «ناجى العلى» هو بحث من نوع آخر عن القضية الفلسطينية، المأساة والمقاومة والانكسار كأن النكبة تعيد إنتاج نفسها.‬
«خسرت حلما جميلا، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلى طويلا، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا».‬
هكذا رسم «العلى» شعرا لـ«درويش» فى إحدى لوحاته البديعة، وقد اختارها الروائى المصرى «بهاء طاهر» غلافا لروايته «الحب فى المنفى».‬
كانت تلك أيام ألهمها «درويش» لمسة إنسانية ومقاومة معا وجسدها بريشته «العلى».‬
لم تكن مصادفة أنهما فكرا أن يرسم الثانى ما يكتبه الأول من شعر.‬
بعد سنوات «أوسلو» أدرك «درويش» بضمير الشاعر صحة ما حذر منه «حنظلة»، فهتف من قلبه حزينا على ما آلت إليه قضية عمره: «من سينزل أعلامنا: نحن أم هم؟ ومن سوف يتلو علينا معاهدة الصلح، يا ملك الاحتضار كل شىء معد لنا سلفا، من سينزع أسماءنا عن هويتنا: أنت أم هم؟».‬
كان ذلك نوعا من رد الاعتبار لما حذر منه رسام جرى النيل منه فى أحد شوارع لندن.‬

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved