المشتقات والتحوط ضد تقلبات الجنيه

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 - 11:57 ص بتوقيت القاهرة

عقود المشتقات من المنتجات المالية التى يصعب على دارس أسواق المال المبتدئ أن يفهمها. بل إن هناك من المحترفين فى مجال أسواق المال الحاضرة من يشق عليه استيعاب الكثير من عقود المشتقات وخاصة الغريب منها exotic derivatives والذى كان سببا فى تفاقم الأزمة المالية العالمية فى 2007/2008 وما بعدها. وتقديرا من كاتب هذه السطور لصعوبة هذا الموضوع فسوف أحاول تقديمه بشكل مبسط أرجو ألا يكون مخلا.
منذ أيام نقلت بعض وسائل الإعلام أن الجنيه المصرى بصدد الدخول مع الدولار فى عقود آجلة غير قابلة للتسليم Non Deliverable Forwards وأن محافظ البنك المركزى قد أبلغ البنوك بأنه قد يسمح لها قريبا ببدء تداول تلك العقود كآلية للتحوط ضد تقلبات سعر الصرف.
والعقود الآجلة بصفة عامة تتميز عن العقود المستقبلية Futures بكونها ليست نمطية ولا قابلة للتداول فى السوق الثانوية بين أطراف غير معلومة لبعضها البعض. فالعقد الآجل يتم توقيعه بين طرفين معلومين ويجوز تداوله خارج المقصورة Over the counter وليس فى السوق الرسمية. ويمتد استخدام العقود الآجلة بغرض التحوط أو حتى بغرض المضاربة ليشمل العديد من الأصول. فالعقد الآجل مشتق من أصل (قد يكون سلعة أو معدنا نفيسا أو عملة) وهو ملزم لطرفيه ويهدف إصداره إلى تجنب تقلبات الأسعار بالنسبة للأصل محل العقد.
فلو أن تاجرا يريد أن يشترى قنطارا من القطن بسعر ألف جنيه وهو السعر السائد عند توقيع العقد، وخشى أن يتغير سعر القنطار عند التسليم بعد شهر مثلا، فإن العقد الآجل يسمح له بتثبيت السعر وبذات الآلية التى تعمل بها بوليصة التأمين، بحيث لا يدفع أكثر من ألف جنيه للقنطار حتى لو أصبح سعره السائد 1200 جنيه، من ناحية أخرى لو أن السعر السائد انخفض عن ألف جنيه للقنطار فإن التاجر سوف يكون ملزما بدفع ألف جنيه للبائع، وهذا أكثر ما يميز العقود المستقبلية والعقود الآجلة عن عقود الخيارات التى تحمل إلزاما على طرف واحد فقط وتكون اختيارا بالنسبة للطرف الآخر. ومن المنطقى ألا ترتفع تكلفة هذا العقد عن كسور عشرية من قيمة الأصل أو السلعة محل الاشتقاق. وكذلك بوليصة التأمين على السيارة ضد الحوادث، فإن أقساطها السنوية يجب ألا تزيد على نسبة بسيطة من القيمة السوقية للسيارة.
•••
العملات التى تتعرض قيمتها للتقلبات العنيفة لا تختلف كثيرا عن السلع التى يحتاج المتعاملون بها أن يتحوطوا ضد مخاطر تقلبها. وقد شهدت التسعينيات من القرن الماضى بداية إطلاق العقود الآجلة غير القابلة للتسليم كعقود قصيرة الأجل، تستخدم عموما للتحوط أو المضاربة على العملات عندما تزيد ضوابط الصرف من صعوبة تداول الأجانب فى السوق الحاضرة مباشرة. ويكون العقد «غير قابل للتسليم» لأن التسوية بين طرفى العقد تتم بالفرق بين السعر السائد فى السوق (فى زمن التسوية) والسعر الافتراضى المتعاقد عليه.
وهناك عقود آجلة متداولة بالفعل خارج المقصورة (وخارج مصر أيضا) صادرة على الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى، وهى تحقق قدرا من التحوط ضد تقلبات الجنيه المصرى مقابل الدولار، بحيث «يتوقع» أحد طرفى العقد أن ينخفض الجنيه بأكثر من 10% (مثلا) خلال أسبوعين، ويتوقع الطرف المقابل أن يكون الانخفاض فى حدود 5% فقط، وهنا يتحقق النفع الأكبر من العقد للطرف الذى يقترب سعر الصرف فى السوق الحاضرة من توقعاته عند الموعد المحدد فى العقد. وتشبه تلك العقود الآجلة عقود المبادلة Swaps وتتميز أسواق النقد والمال المتقدمة بتعدد ووفرة المنتجات والأدوات المالية التى تناسب مختلف المتعاملين.
البنوك المصرية قد تحقق خسائر من تقلبات سعر الصرف، بينما لا تملك حرية كافية للتحوط ضد تقلبات الجنيه. من ثم فإن إتاحة الفرصة للبنوك للتعامل على العقود الآجلة غير القابلة للتسليم يحقق لها قدرا من التحوط ضد خسائر سعر الصرف المحققة فى تعاملاتها، مما يتيح لها شهية أكبر على المخاطر، ويسمح بتدفق المعاملات فى أوقات عدم اليقين.
لكن بالطبع هذا النوع من المنتجات والأدوات المالية ينطوى فى ذاته على درجة من المخاطر، خاصة إذا تم التعامل عليه بإفراط أو بغير علم ودراية. والبنوك المصرية تمتلك خبرات كبيرة فى أسواق سعر الصرف من خلال غرف التعامل، وتمتلك مهارات كبيرة فى التعامل مع المشتقات فى عدد من القطاعات المتخصصة بها والمعنية بالخزانة. من هنا فإن السماح لها بالتعامل على العقود الآجلة غير القابلة للتسليم للجنيه المصرى، هو خطوة موفقة، خاصة إذا علمنا أن تجنب المخاطر أو تحاشيه تماما ليس تصرفا حكيما، لأن الفرص الضائعة الناشئة عن فقد المكاسب (رفق تلك المخاطر) غالبا ما تتعدى فى قيمتها الخسائر المحتملة متى تحققت أسوأ السيناريوهات.
•••
بالتأكيد كلما كانت العملة حرة التداول فى سوق الصرف الحاضرة، ولا تخضع للقيود فى تغييرها بالعملات الصعبة بالسعر «الحقيقى» السائد، فإنها لا تكون فى حاجة إلى هذا النوع من المشتقات للتحوط ضد التقلبات. لكن التحرير التام لسعر الصرف ليس قرارا سهلا، خاصة مع زيادة اعتماد الدولة على الواردات، وشح مصادر النقد الأجنبى، وتعدد الالتزامات بالعملة الصعبة والتى فى مقدمتها أقساط وفوائد الديون الخارجية المقومة بالدولار أو اليورو.
من هنا كانت أهمية مناشدة رئيس مجموعة البنك الدولى للدول الدائنة وخاصة الصين التى تدين بشكل كبير مجموعة الدول النامية المعرضة للتعثر، أن تراعى فى قراراتها المتعلقة بجدولة الديون وهيكلتها مرور العالم حاليا بما اعتبره الموجة الخامسة من أزمات الديون. ويرى البنك الدولى أن العالم قد مر منذ عام 1970 وحتى اليوم بأربع موجات مديونية عالمية وما نعيشه اليوم من تفاقم أزمة الديون وفرص التعثر هو بمثابة الموجة الخامسة. وقد كانت الموجة الأولى خلال الفترة من عام 1970 إلى عام 1989، أما الموجة الثانية فقد بدأت عام 1990 وانتهت عام 2001، وخلال الفترة بين عامى 2002 و2009 تعرض العالم للموجة الثالثة، فى حين بدأت الموجة الرابعة عام 2010 وما زالت مستمرة حتى تاريخ إعلان رئيس مجموعة البنك الدولى عن بدء الموجة الخامسة.
إن تفاقم أزمة الديون عالميا ومصاحبتها لصدمات الركود التضخمى واضطراب سلاسل التوريد والطاقة وتغير المناخ، يضع الدول النامية ــ خاصة ــ فى مأزق حقيقى، ويقلل البدائل أمامها للتحوط ضد الأزمات والتقلبات. وإذا كانت مصر تقف بحكم الظرف العام وحيدة فى كثير من المعارك الخارجية والداخلية، وتحارب فوق كل هذا أشباح الإرهاب والتطرف والغلو، فإن إدارة الملف الاقتصادى تعد فى مقدمة أولويات الدولة، ويجب أن تكون على رأس اهتمامات الحكومة لما لها من تداعيات تمس الأمن والسلم الاجتماعيين. أما السياسة النقدية، فتخضع حاليا لعناية كفاءات وطنية تحاول جاهدة أن تعالج الكثير من أوجه القصور المتراكم خلال سنوات مضت.

كاتب ومحلل اقتصادى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved