العرب غير مستعدين للتسوية التاريخية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 10 ديسمبر 2015 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

سمعت أنه أثناء اجتماع دورى يعقد عادة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ناقش وزراء خارجية عرب بعض جوانب الوضع العربى الراهن، بمعنى آخر نوقشت عرضا وبغير إعداد أزمات الشرق الأوسط؛ نوقشت بعيدا عن هدف السعى لإيجاد بدائل، وفى الغالب، وهذا يدخل فى حيز رأيى الشخصى، لم يجتمعوا إلا تحت ضغط معنوى رقيق أو مجاملة لطرف يشعر أكثر من غيره بثقل المسئولية التاريخية عن تدهور العمل العربى المشترك وضبابية المرحلة القادمة.

خلاصة القول، والاجتماع أيضا، أن المجتمعين لم يأخذوا الأمر بالجدية التى يستحقها. خرجوا من الاجتماع بابتسامات صفراء على الوجوه وفى القلوب نوايا وشكوك، وربما يأس، وفى الأغلب.. لا مبالاة.

***

دعونا لا نظلم وزراءنا، وكل حكامنا، فما نسمعه علنا أو يتسرب إلينا همسا عما يدور فى اجتماعات وزراء خارجية ومسئولين فى دول كبرى وعظمى لمناقشة أزمات الشرق الأوسط لا يبشر بأن هناك فى عاصمة ما أو زمن ما، ما هو أفضل أو أقرب. هناك على العكس ميوعة وهناك غموض وهناك خوف وعجز وتقصير شديد فى إدارة الأزمات عموما وليس فقط أزمات الشرق الأوسط. أعرف مثلا أن التشاؤم الشديد صار سمة أساسية من سمات أى مؤتمر أكاديمى أو سياسى يناقش مستقبل باكستان خاصة وجنوب آسيا بصفة عامة. يزداد التشاؤم كلما اقتربت نهاية التدخل العسكرى الواسع فى أفغانستان وازدادت احتمالات تدهور الوضع العسكرى والسياسى على الحدود بين الهند وباكستان. لا أحد على قدر من الاطلاع والفهم ينكر أن باكستان على خريطة توازنات القوة الآسيوية لغم يهدد بانفجار مهول.

هذا اللغم تتجاوز خطورته أحيانا حد الخطورة المتوقعة من كوريا الشمالية ومن نزاع مايزال منضبطا بقوى عاقلة ومسئولة فى كل من اليابان والصين، وبين الصين وزائدتها القومية: بتايوان.

بل وربما أخطر من نزاع قد يتفاقم ذات يوم بين الصين وكل من الفلبين وفيتنام وإندونيسيا. باكستان وحدها تمتلك ما يزيد على مائة قنبلة نووية. هذه الثروة التدميرية إن وجدت، وهى موجودة بالفعل، فى دول مستقرة ومنضبطة السلوك قد لا تمثل خطرا داهما لا على جيرانها أو على نفسها. أما فى دولة تكتظ بعدد هائل من سكان أغلبهم يعيش تحت أدنى مستوى ممكن للفقر، وتكتظ فى الوقت نفسه بعشرات إن لم يكن بمئات المنظمات الإرهابية، بعضها متقدم التسليح وأكثرها بالغ التطرف والدعم الخارجى. تظهر مشكلة باكستان واضحة فى عبارة استخدمها ذات مرة ريتشارد هاس، الخبير المشهود له بدقة التحليل، لخصت حقيقة الوضع. قال إن مشكلة باكستان المستدامة وخطورتها تكمنان فى ثنائية جوهرية، ثنائية دولة قوية من ناحية، بمعنى ضخامة أجهزتها الأمنية والبيروقراطية والنووية، ودولة شديدة الضعف من ناحية أخرى، بمعنى هيمنة قوى التطرف والطائفية والتشرذم والإرهاب على المجتمع.

***

لدينا فى الشرق الأوسط، وبالذات فى العالم العربى، نماذج غير مطابقة تماما لهذه الحالة الباكستانية، ونهاياتها حتى الآن سيئة، بل مخيفة. عراق صدام حسين كان دولة قوية، بالمعنى الذى اختاره هاس، ومجتمع عميق مهلهل طائفيا وعرقيا. العراق كان دولة قوية وضعيفة فى آن واحد، وعندما وقع التفجير من الخارج انكشفت خطورة هذا النموذج.

ومع ذلك كررته، ومازالت تمارس التكرار، دول عربية ودول غربية. فى سوريا كانت دولة الأسد قوية، بل شديدة المراس والعنف. وكانت فى الوقت نفسه ضعيفة بل شديدة الضعف. مازالت هذه الثنائية تهدد بالخطر، بل وبئس المصير، سوريا ودول أخرى تصر على امتلاك دولة قوية فى مجتمعات منهارة. يمكن نظريا وبالتجربة تصور امتداد هذا الخطر إلى أواسط آسيا وجوار روسيا وصولا إلى باكستان فى النهاية وربما فى مراحل مبكرة غير متوقعة.

***

الدولة العربية التى أفلتت من ثورات الربيع تعمل الآن وبكل طاقتها على زيادة قوتها. لا تعلم أن القوة التى تضيفها إلى نظام أمنها، هى نفسها العنصر الذى يجعلها فى النهاية، وبسبب ظروفها الداخلية، دولة فى حقيقتها ضعيفة. فى الشكل دولة قوية الأمن والتعبئة الرسمية والإعلام الموجه، وفى الواقع دولة ضعيفة الاندماج الداخلى وناقصة الاجتماع القومى وعاجزة، أو غير راغبة، فى تحقيق المجتمع العادل والمطمئن اجتماعيا واقتصاديا والمشارك سياسيا. كلها وغيرها عناصر ضعف مصيرها أن تصطدم بعناصر القوة الظاهرية.

***

مخيف حقا ما يمكن للخيال أن يتوقعه بالنسبة لمستقبل هذا الصدام فى الثنائية الباكستانية. مخيف أيضا، لأنه كان دائما بعيدا عن التوقع وعن مدى الخيال، ما يمكن توقعه بالنسبة للهند، قلعة الديمقراطية فى العالم الثالث. هناك فى هذا البلد الشاسع مساحة والكثيف سكانا والنووى تسلحا والمستقر أمنيا ولو نسبيا، وقع فى الآونة الأخيرة ضحية سلسلة من التغييرات الاجتماعية العميقة.

أسفر عن هذه التغييرات، وهى عديدة، تطاير غطاء القمقم وخروج «عفريت» فى شكل عنصرية دينية وقومية غير مسبوقة، عنصرية تحتمى بحزب قومى شديد التطرف ورئيس وزراء بكاريزما قوية وطموحات «هندوسية» ليست أقل شأنا أو خطرا من طموحات مماثلة سلبت عقول قادة دينيين وطائفيين وعرقيين فى عالمنا العربى، وكانت النتيجة، ما نراه ونسمعه ونعانيه فى حاضرنا ونخشى استمراره وتوسعه أو تعمقه.

فى ظل هذا الجو المشحون بالخطر والقلق وصعوبة التنبؤ، انطلقت لدى بعض دول الجوار، ودول الاستعمار القديم والجديد على حد سواء، موجة من الحنين الدافق إلى ماضى معيب ومهين.

بريطانيا، على أيدى كاميرون لا تخفى نيتها ومشروعها للعودة عسكريا وسياسيا بالسرعة اللازمة لتكون هنا فى الشرق الأوسط بين، أو فى صدارة، القوى المتسابقة على موقع يؤثر فى قرارات وسياسات مستقبل الاقليم.

روسيا الامبراطورية التى عاشت، وانتهت، يحلم ورثتها من قادة الكنيسة وأجهزة الاستخبارات وفلول الحزب الشيوعى بمواقع على مياه البحر المتوسط الدافئة وقريبة من مياه الخليج الساخنة، نراهم يعودون وبمجازفة مثيرة ولكن بآمال واسعة. لا أظن أن مساعى الرئيس بوتين فى استعادة هذه الطموحات وتحقيق بعضها يمكن أن تتوقف عند مجرد إقامة حلف أو اتفاقات مع إيران تضمن للطرفين حماية معقولة ومركزا متقدما فى سباق الغرب العائد يجرب حظا جديدا فى عالم متغير.

***

فرنسا ليست استثناء، فالشرق الإسلامى مفتوح لها وأبوابه تتسع لدخول الجميع. الرئيس أولاند يأمل أن تلعب موجة الحزن الفرنسى على ضحايا ليلة الجمعة السوداء دور سجادة على بابا السحرية لتحمله إلى دمشق، وربما بغداد بعدها، زعيمة لحلف تقوده بنفسها، حلف لا يكون بقيادة أمريكا أو بريطانيا. لا شك يخالجنا نحن العرب فى أن الشوق الأكبر والحنين الأعظم هما اللذان يحركان الآن سياسة تركيا الأردوغانية فى مناطق جوارها، الأوروبى والعربى والآسيوى على حد سواء.

***

وما المشكلة الروسية التركية الراهنة إلا نسخة منقحة لمشكلة مماثلة وقعت فى زمن غير بعيد، وما الغزو التركى المتكرر للعراق وسوريا سوى عملية تدربت عليها جيوش تركيا العثمانية وتركيا الأتاتوركية مرارا وتكرارا. المهم أن تجد تركيا لنفسها حيزا تحجزه ليوم قريب تجتمع فيه الإرادات الأجنبية فتقع التسوية السياسية التاريخية، أو تصطدم فتنشق الأرض فى الشرق الأوسط. وربما آسيا الوسطى، عن أخاديد تصنع واقعا جديدا.

***

أبقى فى انتظار أن يعقد الوزراء، أو الرؤساء العرب، اجتماعا يناقش التمهيد للاشتراك فى صنع التسوية التاريخية القادمة كبديل ممكن يتفادون به الوقوع فى أخاديد الزلزال.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved