عشان البلد تمشى!

بلال فضل
بلال فضل

آخر تحديث: السبت 11 يناير 2014 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

عقب استفتاء 2005 على التعديلات المباركية الدستورية الهادفة لتسهيل مهمة تصعيد النجل جمال إلى الحكم، كتبت: «لا تتوقع منى أن أكتب أى تعليق على هذا الاستفتاء لأننى لست متخصصا فى النقد المسرحى»، وعقب انتخابات الرئاسة المباركية الأخيرة، كتبت: «من المفترض أن تقوم أجهزة الدولة بتسليم وثائق الانتخابات الرئاسية لحفظها فى أرشيف المركز القومى للمسرح». واليوم، وبعد سنوات من افتقادى لمسرح الدولة، ها هو يعود ليقدم ثلاث مسرحيات سياسية كبرى فى موسم واحد، بعد تلافى عيوب الإنتاج التى تسببت فى انصراف الجمهور عن المشاركة، وتفضيله الجلوس فى البيت للاستمتاع بمسرحيات موجه كوميدى.

الجماهير ستشارك هذه المرة بكثافة فى المسرحية، ليس لأنها جميعا مضللة أو مغيبة، بل لأن قطاعات منها تدرك أن المشاركة فى المسرحية هى الأمل الوحيد للنجاة من عواقب الصراع المفتوح، خاصة أن ما حدث منذ 30 يونيو لم يسقط الإخوان وحدهم، بل أسقط كل القوى المدنية التى ثبت أنها لا تملك من أمرها شيئا، وعلّم الكثيرين حتى لو ما قالوش على النت إن أى رئيس لن ينجح حكمه إذا لم يكن مسنودا من قبل الجيش والشرطة والأجهزة المحركة لمفاصل الدولة، ولذلك كما قررت غالبية الشعب فى أول انتخابات برلمانية بعد الثورة أن تدخل مرحلة «دول بتوع ربنا ومش هيسرقوا»، قررت الآن دخول مرحلة «ياللـه نجيب من الآخر»، لكى لا يبقى من يدير الأمور فعليا فى خلفية المشهد، لعله حين يتصدره رسميا يُخلِّص البلاد من أوضاعها المتردية يوما بعد يوم.

«ناس كتيرة حاسباها كدة»، وراجع مثلا فيديو (شارك) الذى أخرجته الصديقة ساندرا نشأت، والذى نجح ببراعة فى فضح هزلية المسرحية السياسية التى بدأت فصولها منذ لحظة التفويض. تجاوز المشاهدة الأولى التى ستنشغل فيها بروعة أغانى شريط الصوت وجمال الصورة، وشاهده ثانية لترى أن أكثر عبارة ترددت على ألسنة المواطنين الذين أعلنوا تأييدهم للدستور والسيسى فى «باكيدج واحد»، كانت عبارة «نعم عشان البلد تمشى». أنت تعلم أن ساندرا لو سألت أغلب المشاركين عما قالوه فى استفتاء 19 مارس واستفتاء الدستور الإخوانى، لأخبروها أنهم قالوا «نعم عشان البلد تمشى»، ومع أن الجميع يعلم ذلك، لن تنهمر عليك هذه المرة من وسائل «الإع..لام» هجائيات غياب الوعى وبكائيات الضحك على البسطاء بالدقون والزيت والسكر، فمثقفونا وإعلاميونا يحبون البسطاء فقط عندما يوافقونهم الرأى، ولذلك لن تعجب من تغزلهم المفرط بالوعى الشعبى الفطرى، ولن تستوقفك ازدواجية المعايير التى تقبل الآن التجارة بالدين والإعلام الموجه ومناخ الإرهاب الفكرى، ولن تندهش من التناقضات المخلة بالشرف السياسى والإعلامى، فأنت تعلم أننا انتقلنا رسميا من مرحلة «أصل باجرى على أيتام» إلى مرحلة «كيفى كده».

على عكس المواطن البسيط الذى يتعلم بالتجربة، كان الإخوان يدركون حقيقة موازين القوى بحكم تجربتهم الطويلة، لكنهم وعلى طريقة المتذاكى الذى تخيل أن آية الكرسى وحدها ستحميه من النشل فى زحام العتبة، ظنوا أن السلطة ستدوم لهم إذا تحالفوا مع الصوامين القوامين «بتوع ربُنا» داخل الأجهزة، ونسوا أنهم لم يكونوا أقوياء أبدا بتنظيمهم أو بثرواتهم، بل كانوا أقوياء فقط بكونهم جزءا من ميدان التحرير، لذلك عندما خانوه تحولت كل أسباب قوتهم إلى أسباب لنكبتهم، ولذلك يعلم كل عاقل جيد الذاكرة أن صراعهم مع السلطة ليس باكيا على الثورة ولا راغبا فى العدالة الحقيقية لدماء جميع الضحايا، وسيدرك أنصارهم المغيبون أو المتحمسون ذلك مع أول فرصة «يوتيرن» تمنحها لقادتهم السلطة التى ستستغلهم لأطول وقت ممكن، لأنك لا يمكن أن تستعيد نظامك القمعى بكامل قوته دون وجود عدو، وكلما كان ذلك العدو غبيا ومنفلتا، كلما كانت مهمتك أسهل وكلما كانت النتائج أسرع.

لذلك ولذلك كله، لا يبدو منتجو مسرحية الإستفتاء متهيبين من مغبة إسقاط الحوائط الوهمية وكسر القواعد اللازمة لإنتاج مسرح «شيك» يبهر العالم، لأنهم تأكدوا أن إبهار العالم لم يعد مطلوبا، فدوله الكبرى لا يهمها سوى تأمين مصالح إسرائيل وحماية حدودها وإيقاف العمليات الإرهابية فى سيناء لكى لا تكون خطرا على قناة السويس، واستعادة القشرة المدنية المباركية مع تغيير الألوان إن أمكن لزوم عدم إحراج حكام تلك الدول أمام برلماناتها وإعلامها، ولذلك لو تم شكم تيارات الشعارات الإسلامية بالرهبوت أو بالرحموت أو بمزيج منهما كما فعل مبارك من قبل، لن تسمع كلمة من الدول الكبرى عن ضرورة إدماج الإسلاميين فى العملية السياسية، وحتى تأخذ السلطة الحاكمة فرصتها كاملة، ستصم تلك الدول آذانها عن كل ما تردده أبواق الإعلام عن مؤامراتها لتقسيم مصر واحتلالها، ولن تطلب حتى تفسيرا لاتهامات اللواءات المتقاعدين، ولن تذكر الجميع بما قدمته وتقدمه من معونات ومساندات، بل ستلتزم الصمت التام، لكى لا تفسد الرؤية الفنية لمنتجى المسرحية الذين يعلمون أهمية حديث المؤامرة من أجل إنجاح العرض وجذب أكبر عدد من النُظّارة.

ما يجعل المسرحية صاخبة ومزعجة هو ضخامة عدد من يشاركون فيها لأول مرة، ولأن هؤلاء يعانون من انفلات الأعصاب الذى يعانى منه محدثو التمثيل، فهم يسعون سواء كانوا فى مقاعد البطولة أو الكومبارس لإخراس أى صوت معترض أو متحفظ، وهو ما لم يكن يفعله نظام مبارك المعتاد على إنتاج المسرحيات السياسية، ربما لأنه كان مطمئنا لرضا الممول الغربى الذى لم يمنح رضاه كاملا بعد، وربما لأن المنتجين الجدد يعتقدون أن مبارك أخطأ عندما تساهل مع الأصوات المعارضة، وتركها تؤدى وظيفة الناقد المسرحى التى لا غنى عنها فى دنيا المسرح، لتصحو دولته على كابوس يوم 28 يناير الذى يحاولون تصوير أنه كان كابوسا إخوانى الصنع، وهو ما لن تدق معه الجماهير كثيرا «عشان البلد تمشى»، لكن هذه الجماهير لن تتسامح للأبد إذا لم تمشى البلد نحو الأفضل بخطوات ملموسة، وستصنع كابوسا جديدا لا يمكن نسبته لأحد، إذا اتضح لها أن الغنائم ظلت محجوزة للأبطال القدامى المتخفين خلف أقنعة جديدة، وأنها لم تحصل برغم تعاونها الكامل إلا على الفُتات المحجوز للمجاميع.

يا خفى الألطاف، نجنا مما نخاف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved