بين إزاحة الدين وابتذال العقل

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 11 يناير 2019 - 11:35 م بتوقيت القاهرة

مسجد الفتاح العليم أكبر المساجد يجاور كنيسة ميلاد المسيح أكبر الكنائس فى الشرق الأوسط. هناك من يفرح ويبتهج ويعظم هذه الخطوة، وهناك من يتحدث عن أننا دولة نامية ويرى أن الأموال التى صُرفت فى بناء بيوت العبادة الضخمة والفخمة كان يمكن أن تقوم بتشغيل عمالة معطلة تتكاثر بقوة، فلو بُنيت مصانع ومشاريع... إلخ كان أجدى وأنفع.. إنها كلمات العلمانيين وبعض المثقفين والمنتقدين، وهنا يأتى السؤال: هل هناك توجه عالمى دينى جديد يعضد بناء المسجد والكنيسة؟ أم لايزال توجه القرن الـ19 ــ قرن العلمانية والإلحاد ــ له تأثيره الكاسح؟ بينما أفكر فى هذا الأمر لأكتب عنه مقالى لـ«الشروق» فوجئت قبل موعد الافتتاح ــ بأيام قليلة جدا، بل قبل ساعات ــ بوفد إنجيلى أمريكى يتكون من 15 فرد قادما من الولايات المتحدة الأمريكية، ولأول مرة يدعونا القس د. أندرية ذكى رئيس الطائفة لأمر مهم جدا موعده بعد 24 ساعة وهو لقاء الوفد الذى يحتوى على بعض مستشارى الرئيس ترامب للأمور الروحية (الدينية) والذى جاء خصيصا لأجل حضور افتتاح المسجد والكنيسة ولعلك ــ عزيزى القارئ ــ لاحظتَ أنهم جالسون فى الصفوف الأولى فى الكنيسة أثناء القداس الإلهى ولقد كان ضمن برنامجهم لقاء الرئيس السيسى ولقاء قيادات من الكنيسة الإنجيلية يحتوى على رجال دين وعلمانيين وعدد من أعضاء البرلمان وصحفيين وحمل انطباعاتهم عن المشهد المصرى للرئيس الأمريكى، جلسنا معهم كقيادات إنجيلية يوم السبت 5 يناير طوال اليوم ولاحظت أن مصطلحاتهم الدينية تطغى على تعبيرهم عن أنفسهم بصورة واضحة (الوفد متدين وبه رجال دين ورؤساء هيئات اجتماعية دينية وأساتذة فى اللاهوت) بالطبع كانوا منبهرين بما يحدث (بناء المسجد مع الكنيسة وافتتاحهما فى يوم واحد) ووضح أن لديهم شغفا لمعرفة التوجه الدينى العام فى مصر والأحداث الإرهابية ولأنهم جاءوا على عجل وبدون تخطيط طويل المدى كان قرار الرئيس السيسى لسبب أو لآخر الاعتذار عن عدم لقائهم ربما لأن برنامجه كان مُعدًّا مسبقا أو ربما لم يرد أن يلتقى وفدا أمريكيا دينيا قبل يوم واحد من افتتاح المسجد والكنيسة ويؤوَّل بطرق شتى، لكنه رحب بحضورهم الافتتاح.
والحقيقة لم أكن شخصيا مندهشا لأنى أتابع المد الدينى الشديد فى أوروبا وأمريكا؛ ففى الآونة الأخيرة ظهرت عدة دراسات فى الغرب تتحدث عن فشل التوقعات التقليدية التى راجت طويلا بشأن تراجع الدين مع تقدم الحداثة وتطور العلوم، إذ ثبت أن الغرب الحديث يتقدم فى العلوم والتكنولوجيا بالترافق مع تدين واضح فى مجتمعاته خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ومن ملامح هذا التغير اندفاع عدد كبير من علماء القرن الـ21 إلى التدين، وقد لوحظ أن الدين يعود بقوة، ليصبح أكثر حضورا فى المجال العام بعاداته وطقوسه وروحانياته الخاصة والعامة، لكن الجديد فى هذا الأمر إن كثيرين من المفكرين والمنظرين المعتمدين يعتقدون أنه إن كان القرن التاسع عشر هو قرن الشك والإلحاد فإن القرن الحادى والعشرين ربما يكون قرن العودة للدين وانبعاث المارد اللاهوتى من جديد. ويقول المحللون إنه على الرغم من أن هذا الادعاء المستقبلى ليس مستندا على تحليل علمى نستطيع البرهنة عليه بشكل مؤكد لكن هناك مؤشرات كثيرة تدل عليه أبرزها أن هناك نقدا عاليا ومرتفعا ضد العلمانية لصالح الدين، وأيضا ظاهرة عودة القوميات باعتباراتها التاريخية والتى غالبا تنبعث هوياتها وفق سياقات دينية مستقبلية كما أن المشاريع العلمانية التنموية المستغلة دفعت الشعوب المستهدفة بالتنمية للعودة للدين كرد فعل عكسى.
***
وقد جاء فى دراسة لمعهد جالوب أغسطس 2010: «إن الدين لايزال يلعب دورا مهما فى حياة العديد من الناس الذين يعيشون فى العالم. وأن النسبة المتوسطة العالمية للبالغين الذين قالوا إن الدين جزء أساسى فى حياتهم اليومية بلغ 84% وفى عشر دول ومناطق على الأقل هناك 98% قالوا إن الدين أساسى فى حياتهم اليومية. هذه الدراسة شملت 114 دولة عبر العالم. هنا علينا أن نطرح بعض التساؤلات على عالمنا العربى المتغيب والبعيد عن الحراك الحقيقى والغوص بعمق فى الجدل الحادث فى العالم كله عن علاقة العلمانية بالدين؛ ففى الربيع العربى اكتشفنا العامل الدينى المحرك والثورى وتهميش العامل العلمانى، فعالمنا العربى والإسلامى هو صاحب نظرية (إما... وإما...) أى إما الدين وإما العلمانية. لكن المتابع للدول التى قامت على العلمانية يلاحظ سقوط أقنعة بعض السياسيين الغربيين ليظهر خلفها رجال دين متعصبون (نتائج الانتخابات فى ألمانيا وفرنسا العام الماضى، الموقف من أزمة المهاجرين السوريين، العناد فى قبول تركيا فى الاتحاد الأوروبى، الحجاب.... إلخ. وعلينا أن ندرك أن هذه الأمور لا تعنى اليوم ولا فى المستقبل سقوط العلمانية التى سفكت هذه البلاد دماء شعبها لتحقيقها ضد سيطرة المؤسسة الدينية، ولكن تعنى أن هناك تناغما جديدا بين الدينى والعلمانى وبالعودة لكتاب «العصر العلمانى» لهبرماس نجد التعبير العبقرى «الدين المعقلن» ليكون فاعلا فى المجال العام من دون سيطرة الأصولية والذى تبعه تشارلز تايلور الفيلسوف الكندى المعاصر وهو يتحدث عن التعايش بين النمط الدينى والنمط العلمانى فى كتابه «العصر العلمانى».
يقول البعض نحن فى حالة خاصة فى الشرق الأوسط وبيننا وبين الغرب فارق حضارى ضخم فما يعنيهم لا يعنينا وهذا حق يراد به باطل، فالغرب لم يعد هو الغرب المستعمر فقد أصبح هو مركز العالم وما عداه هوامش، وأصبح الفاعل المهيمن، وماعداه مجرد أدوات رقعة الشطرنج أدوات تنفذ، وهم يصوغون عقل العالم اليوم من خلال التواصل الاجتماعى وغيره من الوسائل والنموذج الذى وصلوا إليه فى الغرب «المسيحية كدين والحداثة كنهضة علمية وصناعة وقومية متعالية ومتوارثة من زمن الرومان» وقد وصلوا إلى نموذج معرفى «لا يزيح الدين ولا يبتذل العقل».
***
إذا كان هذا هكذا فنحن فى حاجة إلى دين يحقق الحاجات الروحانية ويحافظ على المتطلبات العلمانية، وكعادة الغرب فى عقلنة كل أمر وضع اثنان من الباحثين المهمين تصورا حول أهم المستويات والخطابات التى تسعى إلى بناء ما أطلقوا عليه «صناعة للدين» تحقق هذا التزاوج بين ما بعد الدين وما بعد العلمانية من خلال ما يلى:
أولا: صناعة الدين من أعلى من موقع السلطة بحيث تحدد السلطة نوعية الدين مع سيطرة على الخطاب الدينى الإعلامى الذى يوجه الجمهور وغالبا ما تقوم السلطة بحماية هذا النمط بتشريعات قانونية وأنظمة تضمن بقاءه وانتشاره.
ثانيا: صناعة الدين من أسفل وذلك من خلال المؤسسات المجتمعية وتهميش فكرة الدولة الدينية بأنها مستحيلة، ووضع العلمانية كضرورة للأمن والاستقرار مع الدين المطلوب .
ثالثا: صناعة الدين من الخارج من الدراسة العلمية المترجمة لصياغة ديانات معلمنة كنموذج دينى معتدل.
بالعودة إلى الحبيبة مصر نلاحظ أن الدعوة للعودة للدين من فقهاء الدين والتمسك بالعلم من جهابذة العلم لايبذل فيهما أى جهد فقهى أو لاهوتى أو علمى إنها مجرد استعادة الماضى واجترار نفس النظريات القديمة والتفسيرات العتيقة والتى عند قراءتها أو سماعها تتصور أنك تعيش فى عالم آخر فى استحضار الملابس والهيئة الخارجية واستخدام ذات النظريات العتيقة ورفض العلوم والاجتهادات الدينية الحديثة فإما إنك تعيش فى القرن الأول الهجرى وإما فى القرن الأول الميلادى وإما فى القرن السادس عشر قرن الإصلاح الدينى فى أوروبا وأى اجتهاد حديث مرفوض. لكن هناك جاءت العودة يا سادة مختلفة تماما عن اجترار القديم ورفض العلوم، لقد نزلوا إلى أرض الواقع ونجحوا فى تحقيق المعادلة فلم يزيحوا الدين لصالح العقل، ولم يبتذلوا العقل لصالح الدين، فهل نفهمها ونفعلها بطريقتنا؟.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved