المسجد والكنيسة.. حينما يتعانقان

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 11 يناير 2019 - 11:35 م بتوقيت القاهرة

عن المسجد بوقارة ودقة كلماته وحكمته تحدث الإمام د/ أحمد الطيب: «الإسلام ودولته ضامنة شرعا لكنائس المسيحيين وهذا حكم شرعى، وإذا كان الشرع يكلف المسلمين بحماية المساجد فإنه وبالقدر ذاته يكلفهم بحماية الكنائس، وهذا ليس مجاملة لأحد ولكنه حكم شرعى قائم على آية محكمة من كتاب الله نحفظها جميعا، وإن كان معناها يخفى أحيانا على البعض وهى قوله تعالى «وَلَوْلا دَفْعُ اللَهِ النَاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَهِ كَثِيرا»، وهذه الآية تكلف وتأذن للمسلمين بالقتال دفاعا عن دور العبادة لليهود والمسلمين والمسيحيين معا.
وأردف فضيلته محذرا من استدعاء فتاوى قيلت فى زمن معين وظروف خاصة تقول: إنه لا يجوز فى الإسلام بناء الكنائس «فهذا ليس من العلم ولا الحق فى شىء وهذا خطأ شديد واسألوا التاريخ ينبئكم أن معظم كنائس مصر بنى فى عهد المسلمين».
وقال فضيلته «نحن أمام حدث استثنائى لم يحدث من قبل على مدى تاريخ الإسلام والمسيحية، فبناء أكبر مسجد وكنيسة فى الشرق الأوسط فى العاصمة الإدارية المصرية يمثلان أكبر صرحين للعبادة فى مصر، وهذا يجعل مصر تفخر بهذا الإنجاز الرائع، وبكونها النموذج الأمثل فى التآخى بين الأديان بخاصة الإسلام والمسيحية».
هذه الكلمات الرائعة القوية من الإمام الطيب تدل على عمق فكره ودقة فهمه للإسلام الذى أباح التعددية الدينية خاصة لأصحاب الرسالات الثلاث الكبرى، ومن المنطقى أن يكون لأصحابها أماكن يمارسون فيها عقائدهم وعباداتهم حتى لو اختلفت عن عقائد وعبادات المسلمين.
فقد جاء الصحابة إلى مصر وغيرها من البلاد المجاورة فلم يهدموا كنيسة أو يكسروا صليبا أو يضطهدوا راهبا أو قسيسا، بل إن عمر بن الخطاب رمز العدل السياسى والاجتماعى رفض أن يصلى فى كنيسة القدس حتى لا يتخذها المسلمون بعده مسجدا، وهذا من فرط عدله وعبقريته، وكأنه يخاطب الدنيا كلها «وجود الكنائس دليل على عدل الإسلام ورحمته أما محق وسحق الآخر فهو أقوى دليل على الاستبداد والظلم».
أما عمرو بن العاص بعبقريته السياسية وحكمته الدينية فقط أنصف أقباط مصر ورد لهم جميل النجاشى وفضله الذى رآه بعينه وحضره بنفسه، وأعاد الأنبا بنيامين إلى كرسيه البابوى كأعلى رمز للكنيسة المصرية وقتها، وكان بنيامين مطاردا من الروم بعد أن عذبوا ومثلوا بشقيقه وأسرته وساموهم سوء العذاب.
ويحمل بناء مسجد الفتاح العليم كأكبر وأضخم مسجد فى مصر إلى جوار كاتدرائية ميلاد المسيح من المعانى والرمزية أكثر بكثير من كونهما مجرد بناءين معماريين رائعين.
وصدق الليث بن سعد حينما قال «إن الكنائس فى مصر جزء من عمران الإسلام»، وأضيف إلى قوله أنها تمثل برهانا على حضارة الإسلام وسماحته، أما الذين يحرقونها أو يفجرونها فهؤلاء قد حرقوا وفجروا المساجد من قبل، وقتلوا فى مسجد الروضة أكثر مما قتلوا من المسيحيين فى الكناس، وهؤلاء الذين فجروا أو حرقوا الكنائس فعلوا ذلك لإغاظة الدولة وتدميرها وهم خصوم للمسجد والكنيسة والدولة.
لقد كان البابا تواضروس حكيما حينما حرقت له 63 كنيسة فى يوم واحد فلم تستفزه دعاوى الانتقام ورغبات الثأر أو نوبات الغضب فقال «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، فلما وقف موقف الحكمة حقق كل المصالح للكنيسة ولأبنائه.
ولو أن الحركة الإسلامية تعلمت هذا المنطق فى أيامها الصعبة وأطلقت دعاوى العفو والصفح والصلح ما وصلت إلى ما وصلت إليه من طريق مسدود فى نفق مظلم.
لقد صبر الرجل على حرق 63 كنيسة فكسب فى المقابل مكاسب كبيرة منها تجديد الدولة لهذه الكنائس والتصريح بأكثر من 500 كنيسة فى سابقة فريدة فى تاريخ مصر، ومنها الحريات الواسعة التى تتمتع بها الكنيسة الآن.
وذلك فى مقابل ما وصل إليه الإسلاميون من ضياع كل شىء لأنهم نسوا تجربة المبادرة النادرة والتى تتلخص فى أن تقدم الوردة أمام الشوكة، وتعلى منطق الصلح على منطق البندقية، وترفع شعار العفو والصفح على شعارات الانتقام والثأر، فحتى لو افترضنا جدلا انك ظلمت لا تظلم ولا تفجر، وحتى لو بخس حقك لا تخرج على الدولة أو تنشئ تنظيما مسلحا.
لقد هزم ابن حنبل خليفتين بالصبر والحلم والحكمة، وما لم يتحل الإسلاميون بالحكمة والصبر والعفو والرحمة فسوف يضيع منهم كل شىء.
لا بأس أن يتعلم الإسلاميون من البابا تواضروس، فالحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق الناس بها، وتتعلم الأوقاف من الكنيسة كيف تدير نشاطاتها الثقافية والدينية والاجتماعية والإنسانية فى المسجد مثل الكنيسة، وأن يتحول المسجد وهو فى حوزة الأوقاف إلى مؤسسة شاملة مثل الكنيسة، وأن يؤدى الأئمة مهمتهم كرسالة وليس وظيفة مثل القسس الذين تخرج أكثرهم من الطب والهندسة والصيدلة وبعضهم حاصل على الدكتوراه، ليستطيعوا مواكبة عصرهم ومخاطبة الشباب خطابا عصريا.
وأن يكون إمام المسجد له مرتب يكفيه مثل القسيس، فلا يحتاج أن يعمل «كأمن فى عمارة» ويبتذل فيها لأن مرتبه لا يكفيه بضعة أيام، أو يعمل فى الأرض فلا يتابع أى جديد ولا يقرأ أى صحيفة.
إننى أحزن حينما أرى فقر أئمة الأوقاف وضعف مرتباتهم، وإذا ظل مرتب الإمام فى المسجد مزريا بهذه الطريقة فلن يكون هناك تجديد على الإطلاق.
والغريب أن أوقاف المساجد تساوى مئات المليارات تنفق فى كل شىء سوى الاهتمام بالإمام والمساجد، ووزارة الأوقاف تهب شققها فى كل العصور للمحاسيب وذوى النفوذ وآخر من تعطيهم الأئمة والوعاظ الذين هم فى أمس الحاجة إليها.
ولك أن تقارن حياة الإمام ومرتبه بغيره لتدرك أنه لن يستطيع أن يؤدى رسالة، ولكن مجرد «وظيفة» روتينية يحتاج إلى غيرها ليعيش مستورا فقط.
ولو أن أوقاف المساجد والأزهر أصبحت ملكا خالصا لهما تحت رقابة الدولة والجهاز المركزى للمحاسبات لتغير الوضع إلى الأفضل.
مبروك لمصر هذه اللحظة التاريخية فى تدشين مسجد الفتاح العليم وكنيسة يوم الميلاد فهى لا تقل روعة عن روعة تصميم وبناء المسجد والكنيسة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved