الإمبراطور والمدعى العام

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 11 مارس 2009 - 7:22 م بتوقيت القاهرة

 قضينا أياما نقرأ عن الإبادة وجرائم الحرب وذهبنا فى الحكم على الأمور مذاهب شتى، وإن ذهب أكثرنا مع ما ذهب إليه حكماء الغرب وحكامه. وكان الجدل الدائر والأحكام القاسية فرصة لإجراء مقارنة أو أكثر باستلهام الأحداث العظمى فى التاريخ. عدت أقرأ فى تفاصيل الأيام الأخيرة من حكم امبراطورية المغول الإسلامية فى الهند وصعود حكم الإمبراطورية البريطانية، قرأت تفاصيل إحدى أهم وأعمق تجربة من تجارب حوار الحضارات، وهى التجربة التى وقعت فى أعقابها مباشرة جريمة من اعنف جرائم صدام الحضارات وأشدها شراسة.

لم أعرف صديقا ذهب إلى الهند ولم يعد منبهرا بمعالم حضارة فى المعمار والفنون والآداب ازدهرت فى الهند وخلفت آثارا مبهرة، وكلها، وأكاد أقول إن أغلب هذه الآثار بل كلها دون استثناء، ما زالت، بجمالها وروعتها وتنوعها، تعكس حالة عشق بين ثقافتين، الثقافة الهندوكية والثقافة الإسلامية، وكان أعظم من جسد هذه الحالة، فكرا ووثائق، آخر أباطرة الإمبراطورية المغولية بهادور شاه الثانى، المعروف باسم الامبراطور ظفر، سليل جنكيز خان وتيمور لنك (1336ــ 1405)، وسليل ظاهر الدين بابور الأمير التركى الشاعر الذى عبر ممر خيبر فى عام 1526 إلى الهند، وأنشأ إمارة إسلامية فى إحدى بقاع الهند توسعت فى ظل حفيده الإمبراطور «أكبر» حتى غطت معظم أنحاء القارة الهندية.

كانت هذه الفترة ــ فترة المغول ــ العصر الذهبى للهند، حسب نص كلمات الكاتب البريطانى الشهير وليام دالريميل، الذى قال إن المغول فى ذلك العصر «قدموا وجسدوا فى نظامهم الحضارة الإسلامية فى أبدع وأجمل حالاتها»، حكموا الهند مشاركة مع الأغلبية الهندوكية وشجعوا على ازدهار الأفكار والآداب القديمة، وفى الوقت الذى كانت فيه روما تنفذ حكم الإعدام حرقا فى جوردانو برونو بتهمة الخروج على تعاليم الكنيسة، كان الإمبراطور المغولى «أكبر» يعقد ندوات يومية لحوار الأديان فى قصره، ولم يكن الإمبراطور أكبر وحيدا فى هذا الشأن بين أجداده وأبنائه وأحفاده، حكموا جميعا الهند على هذا المنوال باستثناء الإمبراطور أورانجزيب (1658ـ1707)، وكان متعصبا شديد التطرف إلى درجة أنه حرم على شعوب الهند الاستماع إلى الموسيقى وشرب النبيذ والاحتفال بأعياد معينة والامتناع عن ممارسة ألعاب التسلية وتمضية الوقت، فكان إن نشطت جماعات اعتدت على معابد الهندوكيين، ودمرت بالفعل العديد منها وانتشر العنف. وعندما مات أورانجزيب كانت الهند قد انقسمت على نفسها وكاد عقد الامبراطورية المغولية ينفرط.

وفى عهد ظفر الذى بدأ فى عام 1837، كانت الهند ما زالت ممزقة. ومع ذلك بلغت الثقافة أوجهها وكانت القلعة الحمراء، حيث يوجد مقر الإمبراطورية وهى إحدى العلامات البارزة فى دلهى إلى يومنا هذا تشهد يوميا أنشطة ومهرجانات ثقافية متعددة. فى ذلك الحين كانت شركة الهند الشرقية، التى أسسها قبل قرون تجار بريطانيون تحتفظ بقواعد عسكرية قليلة العدد على بعض سواحل الهند، وكان مدنيون إنجليز يعيشون آمنين فى دلهى وضواحيها.

وتوسعت تدريجيا أنشطة الشركة وازدادت نفوذا وسلطة وجشعا وصارت تحلم بالسيطرة على مقر الإمبراطورية المغولية فى دلهى، حيث كان يقيم الإمبراطور فتهيمن سياسيا، كما هيمنت اقتصاديا. كان ظفر فى نظر الهنود الإمبراطور الأكثر شعبية وتسامحا وموهبة بين أسلافه. كان بارعا فى فنون الخط العربى، وكاتبا متعمقا فى شئون الصوفية، ودارسا ومشجعا لفن رسم التمائم، وخبيرا فى هندسة الحدائق والهندسة المعمارية، وكان شاعرا جادا ينظم الشعر باللغات الأوروبية والفارسية والبنجابية ولغات محلية أخرى.. وكان فارسا ومبارزا.. كل هذه الصفات وغيرها كانت معروفة للخاصة والعامة فى كل أنحاء الهند، وبالمقارنة ظهر البريطانيون أمام الهنود «أجلاف، ماديون، وغير متحضرين»! حسب التعبيرات التى استخدمها الكاتب البريطانى مؤلف كتاب «آخر المغول».

دأبت شركة الهند الشرقية على الفصل بين التجارة والدين، على عكس ما فعلت شركات أوروبية أخرى كانت تعمل فى جنوب وشرق آسيا. إلى أن وصل إلى دلهى فى عام 1852 قس إنجليزى وكان رجلا شديد التعصب، ولم يرتح بعض المسئولين فى الشركة لوجود القس بسبب ما أثاره من غضب فى جموع الهندوكيين والمسلمين. وبالفعل وصل التوتر إلى الجنود الهنود العاملين فى الشركة وعددهم يتجاوز 139.000جندى فتمردوا فيما عرف بانتفاضة «السيبوى»، وكتبت وقتها صحيفة «أوردو دلهى» الناطقة بالأوردية إن الانتفاضة جاءت كرد فعل «إلهى» ضد الكفار الذين يريدون محو جميع ديانات الهند.

وقعت الانتفاضة فى عام 1857واشتعلت بالفعل حربا دينية ودعا المتمردون الامبراطور ظفر لقيادة التمرد. وكان للإمبراطور المغولى كما ذكرت مكانة خاصة لدى شعوب الهند، تكشف عنها الألقاب التى كان يحملها، كان يلقب بصاحب السمو المقدس وخليفة العصر والمحاط بالملائكة وظل الله وملجأ الإسلام وملك الملوك الأعظم، إلا أن استجابته للدعوة رغم معارضه «زينات محل» أقرب زوجاته إلى قلبه كانت الحجة، التى استخدمتها القوات البريطانية لتدمير دلهى العاصمة والقضاء على حكم المغول وإشعال أزمة كانت بين أخطر ما واجهته الإمبراطورية البريطانية من أزمات فى القرن التاسع عشر.

تصاعد العنف، وحاول المتمردون وأهل المدينة الانتقام بحرق بيوت البريطانيين ثم وصل «الجهاديون» من خارج العاصمة ونشبت فتنة بين المسلمين والهندوس، واستمر الامبراطور يدعو إلى الوئام بين الأديان، الأمر الذى أثار انتقادات شديدة فى صفوف الجهاديين متهمين إياه بالتعاطف مع أعداء الإسلام. وتؤكد الوثائق المنشورة أن الاستخبارات الامبريالية لعبت الدور الأهم فى نشر الوقيعة وأثارت الفتن وروجت الشائعات حول خيانة زينات محل للجماهير وبخاصة لجموع المسلمين.

من ناحية أخرى تمادى الجنود البريطانيون فى استخدام العنف وتجلت كراهيتهم للهنود وبخاصة الكراهية، التى كان يكنها للهند وشعوبها البريجادير جون نيكولسون قائد القوات، الذى كان يكره الهنود بأشد مما كان يكره الأفغان وكان حظه العاثر قاده إلى الوقوع فى أسرهم خلال حرب الأفغان العظمى فى 1842، وينقل المؤرخون عن نيكولسون وصفه للهنود بأنهم «العرق الأشد شرا وتعطشا للدماء على وجه الأرض»، وعندما سئل عن سبب وجوده فى الهند على الرغم من كراهيته لها كان يقول إنه «موحى إليه بنشر المسيحية فى ربوع هذه الأرض المتوحشة»، وينقل مؤلف الكتاب عن مراقب عاش تلك الفترة قوله إن نيكولسون كان يجسد فى شخصه وأسلوبه العنف فى أبشع صوره، وفى الرابع من سبتمبر قاد قواته البريطانية، مع جنود من البنجاب بعضهم من طائفة السيخ وبعض آخر من المسلمين وجنود من الهندوكيين وزحف بهم فى اتجاه العاصمة وفرض الحصار عليها قبل أن يسلط قنابل مدافع ليهدم أسوارها التاريخية، وفى اليوم التالى اقتحم الجنود القلعة الحمراء مقر الإمبراطور وعاثوا فيها فسادا.

يقول الكاتب: «كان انتقام البريطانيين من التمرد بدون تمييز وكان رهيبا. فقد انطلق ضباط وجنود ومدنيون إنجليز يشنون عمليات قتل جماعى ويقيمون المشانق فى كل أنحاء المدينة والقرى المجاورة. كانت الجثث فى كل مكان»، وينقل المؤلف عن اللورد كاننج الحاكم العام أنه أبلغ الملكة فيكتوريا فى لندن ما نصه «تجرى الآن عمليات انتقامية بشعة ووحشية»، وأصدر أوامر جديدة بأن يتولى تنفيذ عمليات الانتقام والاستيلاء على الغنائم المسئولون البريطانيون أنفسهم. فى لندن طلب عدد من أعضاء مجلس اللوردات بدعم من اللورد بالمرستون رئيس الوزراء أن تقوم الحكومة بـ«محو مدينة دلهى من الوجود».

كان منطقيا والأمور أخذت هذا المنحى أن تحاول شركة الهند الشرقية التحلل من تبعيتها للإمبراطور ظفر باعتباره الجهة الوحيدة، التى تمتلك الحق فى تجديد امتياز الشركة أو إنهائه وطردها من الهند. وبالتواطؤ مـع حكومة لندن حيكت «المؤامرة» على الوجه التالى، تقترح الشركة على الحكومة البريطانية تقديم الإمبراطور لمحاكمة عسكرية وتعيين الماجور هاريوت المعروف بكراهيته الشديدة للهنود والشعوب الملونة عموما مدعيا عاما، وكان هاريوت قد قام قبل تعيينه وتشكيل المحكمة بإعدام معظم أفراد عائلة الإمبراطور من الذكور. وجاء فى مذكرة الادعاء اتهامات كان أهمها الاتهامان التاليان:

1- لدى الامبراطور «طموحات ملكية إسلامية متعصبة».
2- يترأس الامبراطور «مؤامرة إسلامية دولية تخطط لتخريب الامبراطورية البريطانية وإقامة امبراطورية مغولية محلها».
وبعد محاكمة صورية هزلية صدر الحكم بأنه مذنب فى كل التهم الموجهة إليه وحكمت عليه المحكمة بأن يعيش بقية عمره فى جزر اندامان أو أى مكان آخر يختاره الحاكم العام البريطاني، وبالفعل تقرر نقله مع اثنين من أبنائه ــ بعد إعدام الثلاثة عشر الآخرين ــ إلى رانجون حيث وافته المنية فى عام 1862. وبعد فترة من دفنه اكتشفت عائلته وأتباعه اختفاء جثمانه، ولم يعثر على رفاته إلا فى عام 1991 أى بعد نحو مائة وثلاثين عاما بينما كان بعض عمال المجارى يحفرون فى منطقة نائية صارت الآن مزارا لكثير من المسلمين من جميع دول جنوب آسيا.

هكذا انتهت امبراطورية المغول الإسلامية وبنهايتها انتهت مرحلة وئام نموذجى بين حضارتين من أهم حضارات العالم وأقدمها. وهكذا دخلت جيوش الامبراطورية البريطانية دلهى بعد أن دمرتها وسوتها بالأرض وأبادت آلاف من سكانها، وأعدمت أفراد الطبقة الحاكمة فيها وبخاصة الذكور إمعانا فى التأكيد على نهاية عصر وأسرة وحضارة وتجربة تسامح وتعايش بين مختلف الأديان والأعراق فى الهند، وأعلنت دلهى الجديدة عاصمة لمستعمرة الهند أغلى جوهرة فى التاج البريطانى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved