سقوط أسطورة بن لادن

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 11 مايو 2011 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

 هى مجموعة من المصادفات القدرية أن يتزامن الإعلان الأمريكى عن النجاح فى اغتيال أسامة بن لادن مع تفجر سلسلة من مشاريع الحروب الأهلية، التى يتولى قياداتها «سلفيون» و«أصوليون» من خريجى المدرسة ذاتها، التى ترعرع فيها قائد تنظيم «القاعدة». ففى مصر وتونس والجزائر والمغرب وسوريا، وحتى فى لبنان، كانت مجموعات من هؤلاء الذين يكفرون كل من اختلف معهم فى الرأى تشن حملات دموية ذهب ضحيتها مئات الضحايا، بينهم نساء وأطفال، ويدمرون دور عبادة، ويعرضون أمن بلادهم للخطر الشديد، مما يمهد للهيمنة الأجنبية فى ظل الاقتتال الداخلى أو يقدم التبرير المقنع والمقبول لعودة الاستعمار الغربى إلى دنيا العرب (حيث غادر أو يكاد) بوصفه المنقذ من الطغيان الداخلى أو من دمار الحرب الأهلية.

ذلك أن هذه «المدرسة» التى تبرر نفسها بادعاءات فكرية تنسب إلى غلاة المتطرفين فى شرح الفقه الإسلامى، والذين أغلقوا الأبواب على التفكير والاجتهاد منذ قرون، وقدسوا تفسيراتهم للنص، وكفروا كل من لا يقول أو يعمل بتعاليم هؤلاء المتشددين، الذين يرون الإسلام فيهم، أما الآخرون ففى دار الكفر التى يقاتلون «لهدايتها» من أدنى الأرض إلى أقصاها.

وما إحراق الكنائس ودور العبادة والقتل على الهوية الطائفية فى مصر والاشتباكات الطائفية، التى تكاد تذهب بحلم الثورة عشية انتصارها فى كل من تونس أو تكاد تدمر الدولة فى البحرين أو تكاد تهدد العمران والوحدة الوطنية فى سوريا، فضلا عن مخاطر تفجر الفتنة فى لبنان، إلا شواهد على النتائج البعيدة المدى «لإنجازات» هذه المدرسة التكفيرية، التى تكاد تخرج العرب والمسلمين من التاريخ.. والجغرافيا.

ولسوف تمر سنوات طويلة قبل أن تكتب القصة الحقيقية الكاملة لظاهرة أسامة بن لادن، حياته المغلقة على أسرارها، وتحولاته التى نقلته من «فسطاط» إلى آخر، ومن «الجهاد» ضد الشيوعية والإلحاد وقوات الاحتلال السوفييتى فى أفغانستان إلى «الجهاد» ضد «الكفار» فى الولايات المتحدة والغرب عموما وبعض ديار العرب.. مع استثناء إسرائيل دائما.

يصعب، بطبيعة الحال، أن نصدق أن أسامة بن لادن قد ترك السعودية ليذهب إلى «الجهاد» فى أفغانستان بغير إذن أو علم النظام الذى نشأ فى ظلاله أو من خلف ظهر الحليف الأكبر لهذا النظام: الإدارة الأمريكية.

●●●


بعيدا عن الحبكة البوليسية فى حكاية بن لادن، والتى أضافت إليها واشنطن، مع الخاتمة، تشويقا استثنائيا عبر براعة الإخراج الهوليوودى، فإن القراءة المتأنية لمرحلة بن لادن تكشف كم دفع العرب من عدالة قضاياهم ومن سمعتهم الدولية، ومن أرصدتهم المالية، ومن حقوقهم فى أوطانهم وفى أنظمة تليق بكرامتهم وثقافتهم وكفاءاتهم، كضرائب باهظة تعويضا عما ألحقه بن لادن من خسائر بدول كثيرة، مع أن خسائرهم هى الأفدح.

أصاب الضرر، بداية، فلسطين: قضية مقدسة وشعارات المقأومة والتحرير، برغم أن ظهور بن لادن قد تزامن مع تفاقم الخطر الإسرائيلى على القضية، نتيجة خروج النظام العربى من ميدانها، بالصلح المنفرد، أو بالخوف من التفرد فى مواجهة قد تذهب بمن يجرؤ على المغامرة بتهور الجاهل بأسباب قوة العدو الإسرائيلى، الدولية منها والذاتية.

ومع مبادرة أهل النظام العربى إلى استجداء «العفو» الأمريكى عن صلتهم ببن لادن، ولو بحكم الولادة والجنسية، فقد تم اغتيال التفكير بالثورة، بعدما تم توسيع تعريف «الإرهاب» ليشمل شعارات التحرير وكل من فكر بالاعتراض فضلا عن الكفاح المسلح أو مقاتلة جيوش الاحتلال.

وهكذا أمكن لأهل النظام العربى أن يشتروا لأنفسهم أعمارا جديدة عن طريق تكليف أنفسهم بقتال «الإرهاب» نيابة عن الإدارة الأمريكية ولحسابها.

●●●


ولقد تيسر لى فى الأيام الأخيرة من العام 1979 أن ازور المملكة العربية السعودية، التى كان نظامها يعانى ارتجاجا عنيفا نتيجة اقتحام مجموعة أصولية متطرفة بقيادة فتى ينتسب إلى إحدى اكبر القبائل النجدية وأقواها، اسمه جهيمان العتيبى، الكعبة المشرفة، والتحصن بالسلاح فيها، متهمين النظام الوهابى، الذى ولدهم، وأنشأهم على مبادئه بالكفر والمناداة بإسقاطه.

كانت العملية من الإحكام والدقة فى اختيار الهدف الأعظم قداسة لدى المسلمين، وفى مكة المكرمة، بحيث إن النظام قد ارتبك واهتز اهتزازا عظيما، واسقط فى يده: كيف يهاجم هؤلاء المتحصنين فى كعبة الإيمان؟ وكيف يخرجهم منها وإخراجهم بالقوة سيضر بها إضرارا عظيما؟

وجاء من يقترح الاستعانة بقوات خاصة ومظليين فرنسيين إضافة إلى القوات الخاصة الأردنية. وتم ذلك بالفعل، واستخدم المهاجمون كل أنواع الأسلحة، بما فى ذلك إحراق عشرات المقاتلين الذين كانوا يقبعون فى الأقبية والسراديب، تحت الكعبة، أما من نجا من القتل فقد اقتيد إلى ميادين الإعدام ليقطع رأسه بالسيف.. فى حين اعتقل المئات من أقارب جهيمان ورفاقه ليمثلوا أمام المحاكم الشرعية التى لا ترحم.
وحين دخلنا الكعبة المشرفة كانت بعض المآذن مقطوعة الرأس بالقصف وكانت آثار القذائف «المؤمنة» كندوب ما بعد الحرائق تستصرخ اهل الإيمان إنقاذ الدين!

●●●


لقد نجح أسامة بن لادن فى إشاعة الرعب فى العالم جميعا بعد «غزوة نيويورك»، التى دمرت البرجين، وتسببت فى مقتل أكثر من ثلاثة آلاف إنسان، لا ذنب لهم إلا أنهم وجودوا تلك اللحظة فى ذلك المكان.
لكن النجاح الأعظم يتمثل فى أن بن لادن قد حول كل عربى، خاصة، وكل مسلم عموما، إلى إرهابى، قاتل أطفال ونساء، مدمر للحضارة..

بعد الحرب التدميرية على أفغانستان، ومن ثم احتلالها، ستشن الإدارة الأمريكية حربا على العراق بحجة أن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شاملة، وستعيد نشر أساطيلها فى الخليج العربى وبحر العرب إضافة إلى تعزيز قواعدها العسكرية فى مختلف أنحاء الجزيرة العربية والخليج.. وسوف تحاصر إيران، وتهدد سوريا، وتتحكم بمصير لبنان.

وبعد قوات الاحتلال، ومعها، سيطارد منتسبون إلى القاعدة من صنفوهم خصوما وعملاء من أبناء الأديان والطوائف الإسلامية الأخرى فكادوا يغرقون العراقيين بدمائهم.

إجمالا: سيكون على كل نظام عربى أن يثبت براءته من تهمة الإرهاب عبر الخضوع المطلق للهيمنة الأمريكية، واستطرادا عبر إسقاط فلسطين من الذاكرة والتسليم بوجود إسرائيل بديلا منها.

وسيكون العرب والمسلمون عموما محاصرين بين حدى الاحتلال والإرهاب، فمن لم يمت بالقذيفة الأمريكية مات بسيف الشرع أو بعبواته الناسفة للمصلين فى المساجد، كما فى الحسينيات أو فى الكنائس، حيث يصلى من كانوا جذور أهل العراق جميعا.

يمكن «التنزه» مع أسئلة مثيرة أخرى من نوع: هل كانت المبادرة العربية التى تقدمت بها المملكة السعودية (بتزكية أمريكية) لحل النزاع العربى ــــ الإسرائيلى الوجه الآخر لغزوة نيويورك، أى: محأولة للتكفير عن ذنوب الأصولية الإسلامية التى صدرتها بلاد إسلام الصمت الأبيض والذهب الأسود إلى العالم فأرهبته مذابحها الجماعية، بإقطاع فلسطين للإسرائيليين، تحت الرعاية الأمريكية؟! وهل استقبال القواعد، فى البر والبحر، ضمانة إضافية لإخضاع الأصولية الإسلامية للهيمنة الأمريكية وتوظيفها فى خدمة أهدافها تحت شعارات الدين الحنيف؟!

على أن أسامة بن لادن الذى انتقل من الأقصى إلى الاقصى، من الجهاد ضد الشيوعيين الكفار إلى الجهاد ضد الصليبيين الغربيين، لم ينتبه مرة إلى الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، والى حروبها ضد العرب جميعا، مصر وسوريا، والعراق، ولبنان الذى كانت إسرائيل ــ يوم باشر جهاده ــ تحتل أجزاء أساسية من أرضه وتسترهن بعض شعبه ودولته.

●●●


لقد ذهب بعض المستقبل العربى ضحية الإرهاب المزدوج: إرهاب الأصوليين الذين يرون غيرهم كفارا إلى أن يثبت العكس( ونادرا ما يثبت) وإرهاب الهيمنة الأمريكية، التى صادرت الغد العربى بذريعة مكافحة الإرهاب، وسجنت أجيالا من العرب فى زنزانة المتهمين بمعاداة الإنسانية وقتلة الأطفال والنساء، فى حين أنهم ــ بحاضرهم ومستقبلهم ــ ضحايا مرتين: لبن لادن ولمن قاتل لحسابهم ثم قاتلهم فأخطأ فى الحالين، وها هم العرب يدفعون الحساب مضاعفا من حاضرهم ومن مستقبلهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved