نار في صدري

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 11 أغسطس 2009 - 10:52 ص بتوقيت القاهرة

 أزاحت الساعى جانبا وهى تسأل بالصراخ عن مكتب الست أو الأفندى المسئول، أدخلوها إلى مكتب الآنسة المسئولة التى نهضت وقادتها إلى مقعد وطلبت لها الليمونادة وابتسمت فى وجهها وربتت على كتفها، لا شىء من هذا أوقف العويل واللطم على الخدين، وبعد وقت غير قصير استطاعت الآنسة المحامية تجميع الكلمات المتناثرة لتسجلها فى شكوى محددة.

«أنتم هنا فى هذا المركز تقولون إنكم تقدمون المساعدة القانونية للمرأة الفقيرة وغير المتعلمة ومهضومة الحقوق، هذه المرأة هى أنا. أنا امرأة تجاوزت الستين. لم أذهب إلى مدرسة. تزوجت فى سن الخامسة عشرة وأنجبت نساء ورجالا وأنجبوا بدورهم شابات وشبانا. وبعد هذه العِشرة الطويلة فاجأنى زوجى أمس بعقد قرانه على فتاة فى الخامسة والعشرين، وقضى ليلة الأمس بطولها معها. لم تغمض جفونى. قضيت الليل أبكى وأنوح. وفى الصباح نصحتنى جارتى بأن ألجأ لكم لتساعدونى أحصل على حقى عند حضرة القاضى». «ماذا تقولين؟ تقولين القانون لن يساعدنى فالرجل من حقه أن يتزوج علىّ. مرة ومرات؟ أنتم لا تفهمون. أنتم مخطئون. كلكم منحازون مع الرجل. كلكم ضدى. كيف يمكن أن يكون القاضى عادلا إن لم ينصف امرأة تحب زوجها. عاشت تخدمه قرابة خمسين خريفا ليتزوج عليها ابنة الخمسة وعشرين ربيعا. أنت محامية وتعرفين ربنا وتقولين إنه لا يوجد فى القانون ما يطفئ النار المشتعلة فى صدرى. من فضلك يا بنتى بصى تانى فى القانون أكيد فيه حاجة تبرد النار اللى جوايا».

عادت إلى ذاكرتى هذه الحكاية كما روتها لى الصديقة المحامية عزة سليمان قبل عام أو أكثر، عادت فى وقت سمعت فيه حكايات عن الغيرة ومآسى بسبب الغيرة أكثر مما سمعت خلال شهور، قلت لعله الصيف وإجازاته الطويلة، أم أنه نفاد الصبر المستشرى فى كل مكان وداخل كل أسرة، أم هى هذه الحالة من فقدان الثقة بالنفس، التى حلت فى الآونة الأخيرة بكثيرين ممن أعرف من الرجال والنساء، أذهلتنى كثرة حكايات الغيرة التى سمعتها، وأذهلتنى ارتباط عدد غير قليل من هذه الحكايات بحكايات عن ارتفاع معدلات الطلاق فى مصر، والتى هى بالفعل من أعلى المعدلات فى العالم.

عدت إلى أوراقى أبحث فى دخائل مؤسسة الزواج وعبقرية الحب وآلام الغيرة وعواقبها الوخيمة. وجدت أشخاصا أسروا لى بحكايات عن قلوب تشقى وتسعد وأجسام ترغب و«تتشاقى» وعواطف ومشاعر تتأجج قبل أن تبرد لتتأجج من جدبد وعقول تتردد وتقدم وتندم وتحجم. أثارت الأوراق ذكريات وانفعالات وأيقظت فى الروح ما كنت أظن أنه أراح وارتاح، خرجت من قراءتها ومما سمعت خلال الأسبوع الأخير متأكدا أن الأجيال وإن اختلفت حظوظها فى المعرفة والعلم والعادات تبقى متفقة بصلابة ومجتمعة على شىء واحد.. هو الغيرة.

أعرف رجالا لا يعترفون بأنهم يغارون، وما أكثرهم. بعضهم يفرض على زوجاته الحجاب أو النقاب متمسحا بالدين، أو يحرم خروجهن للشارع، وإن خرجن تابعهن بالمحمول، وأغلبنا يعرف أو يسمع عن العلاقة التى توطدت بين المحمول والغيرة، وتتسبب الآن فى أزمات خطيرة. أعرف نساء تغار من زميلات أزواجهن فى العمل وصديقاته، ونساء تغار من هوايات الزوج وعمله، ومن موسيقى يحبها، ومن بطلة مسلسل تليفزيونى أو مقدمة برامج بعينها، أو تغار من غرفة ينفرد بنفسه فيها. قابلت من تغار من نجاح زوجها إذا أخذه النجاح بعيدا عنها أو لفت الأنظار والإعجاب، وعرفت واحدة كانت تغار من دفتر يومياته، الذى يدون فيه مذكراته ويبوح لصفحاته بأسراره وأحلامه.

وجدت بين الأوراق كراسة عنوانها «المعذبون بالغيرة»، جمعت فيها اقتباسات من كتابات لأدباء ورجال سياسة وفلاسفة قدامى عانوا مرارة الغيرة وعذاباتها. ومن بين ما قرأت نصيحة الكاتب الأيرلندى برنارد شو إلى امرأة يقول فيها «لا تضيعى غيرتك هباء على رجل...». وأظن أننى لمحت رضاء فى عيون معذبات سمحت لهن فقرأن هذه النصيحة، قرأت عليهن أيضا عبارة شهيرة كتبها لورنس دوريل يقول فيها «ليس الحب هو الأعمى ولكنها الغيرة»، وبالفعل قليلات وقليلون هم الذين يبدون استعدادا لرفع غشاوة الغيرة عن عيونهن ليبصروا بوضوح، ومع ذلك وافق كثيرون وكثيرات على الرأى القديم القائل بأن الأصل فى الغيرة هو الوقوع فى حب الذات وليس الوقوع فى حب شخص آخر. لذلك توقفنا أمام عبارة أطلقها الفيلسوف سان أوجستين، الذى عاش فى عصور أوروبا المظلمة حين كان الشعور بالجوع مهيمنا ومتغلبا على أى شعور آخر، قال «من لا يشعر بالغيرة لا يشعر بالحب، ولا يعيش حالة حب من لا يشعر بالغيرة».

ولكن عندما أستمع إلى أهات وأنين المعذبات والمعذبين بالغيرة يرتد لى على الفور صدى ما سطره وليام بن عام 1693 فى كتابه ثمار الوحدة، قال بن إن الغيورات والغيورين متعبون للذين يعيشون مهم فضلا عن أن غيرتهم عذاب دائم وأليم فى نفوسهم. وفى تعقيب لصديقة تعذبت طويلا همست قائلة: «لقد قضيت معظم سنين حياتى الزوجية أعيش فى ظل سحابة لا تفارقنى.. اسمها الغيرة، قطراتها أعمت بصيرتى وخلفت ثقوبا فى قلبى. لا شىء يهد الحيل، حيل رجل أو حيل امرأة، مثل الغيرة».

عادت تملأ مخيلتى صورة العجوز التى تزوج زوجها عليها من فتاة صغيرة، وهى تصرخ وتولول تعذبها آلام الغيرة وتنادى على المسئولين لينهضوا بمسئوليتهم فيضعوا تشريعا يطفئ نار الغيرة المشتعلة فى صدرها، أو على الأقل يبردها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved