هامش للديمقراطية .. المجال العام والمغردون خارج السرب

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الأربعاء 11 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

نعود إلى البدايات: إذا كان التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع يستند من بين مقومات كثيرة إلى وجود مجال عام يتبلور حول الوسائط الإعلامية ومنظمات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية والكيانات النقابية وتتداول به المعلومات بحرية وبموضوعية بعيدا عن احتكار نخب الحكم وعن توظيف شبكات المصالح ويدافع به عن حريات وحقوق المواطن، فإن المجال العام المصرى يسجل اليوم اختلالات خطيرة لها ــ إن استمرت ــ أن تعوق إمكانية التحول الديمقراطى بل وتفسدها بالكامل.

لست من عشاق المقاربة المثالية للديمقراطية، وأدرك جيدا أن المجال العام يعانى فى الديمقراطيات المستقرة التى توظفها العلوم السياسية كحالات نموذجية من اختلالات يحدثها نزوع نخب الحكم المنتخبة أحيانا إلى التحايل على شعوبها (الترويج للإدارة الأمريكية وللحكومة الفرنسية للعمل العسكرى ضد سورية كمثال راهن وقبل سنوات تزييف الحكومات الغربية لوعى شعوبها بشأن غزو العراق) وتسببها أيضا سطوة شبكات المصالح الاقتصادية والمالية والسياسية على الإعلام وحالة العزوف عن الاهتمام بالشئون العامة التى تعانى منها قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين. إلا أن الديمقراطيات المستقرة، وبفضل سيادة القانون وأدواتها الناجزة واستقلال السلطة القضائية ورقابتها هى والسلطة التشريعية على السلطة التنفيذية لكبح جماح نزوعها للتغول وبفعل منظمات المجتمع المدنى والأصوات المدافعة عن حريات وحقوق المواطن التى تسهم فى توعية الرأى العام، تظل قادرة على مواجهة اختلالات المجال العام وفى بعض الأحيان على احتواء تحايل نخب الحكم وشبكات المصالح (رفض البرلمان البريطانى الموافقة على التدخل العسكرى فى سورية وضغط الرأى العام الفرنسى لتغيير موقف حكومته). وهنا يكمن الفارق الجوهرى بين الديمقراطيات المستقرة وبين الواقع الراهن فى مصر.

فقد سقط المجال العام المصرى، والذى انفتح ديمقراطيا بعد ثورة يناير ٢٠١١ ونجح تدريجيا فى دمج قطاعات متزايدة من المواطنات والمواطنين، فى هوة حجب المعلومات وبناء الرأى الواحد مع تغييب الموضوعية وتوظيف الاستراتيجيات الأمنية التقليدية لتسكيت المخالفين والمعارضين إن بالتشويه والتخوين الزائفين أو بالعنف اللفظى الذى تمارسه أصوات اعتادت تزييف وعى الناس والترويج لخطاب كراهية لجهة المدافعين عن الحريات والحقوق ومنظمات المجتمع المدنى مشككة زورا فى وطنيتهم ومدعية زورا أيضا أنها هى وحدها (أى هذه الأصوات) الحريصة على المصلحة الوطنية. وليس سقوط المجال العام فى هذه الهوة إلا نتاج فعل دوائر مؤثرة فى السلطة التنفيذية الراهنة لا تريد لمصر تحولا ديمقراطيا حقيقيا وشبكات مصالح اقتصادية ومالية وإعلامية متحالفة معها. ولا تفسير لقبول قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين لحجب المعلومات وللرأى الواحد ولتشويه وتخوين المعارضين إلا بالإشارة إلى حالة التيه والضيق التى تسيطر عليهم وإلى حقيقة أن غياب الديمقراطية لعقود طويلة أورثنا نزوعا للفاشية وللتطرف فى الرأى واختلالات يستحيل تجاوزها خلال عامين ونصف من الزمان.

فى مواجهة سقوط المجال العام المصرى تتمثل مهمة المدافعين عن الديمقراطية اليوم فى الإصرار على حرية تداول المعلومات وعدم الاستسلام للرأى الواحد ومواجهة حملات التشويه والتخوين الزائفة بنفس طويل وبإدراك لحالة التيه والضيق التى تعانى منها قطاعات واسعة وبمواصلة الدفاع عن الحريات والحقوق وسيادة القانون دون مساومة. مهمتهم هى صياغة رؤية دستورية وقانونية وسياسية متماسكة لغل يد دوائر السلطة التنفيذية المناهضة للديمقراطية والمصالح المتحالفة معها عن التحايل على الشعب وتزييف الوعى، رؤية تفعل أدوات سيادة القانون ورقابة السلطة القضائية والتشريعية على التنفيذيين وتمكن لتطور إيجابى للمجتمع المدنى وللإعلام الباحث عن الحرية والموضوعية والمهنية.

لا تحول ديمقراطى فى مصر بدون مجال عام حر تتداول به المعلومات ويسمح به بتعددية الآراء والأفكار، وتتراجع به مساحات التشويه والتخوين ونزع الوطنية عن المغردين خارج السرب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved