بيروت على أعصابها

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 11 أكتوبر 2014 - 7:25 ص بتوقيت القاهرة

نذر نيران تلوح فى الأفق اللبنانى تحت السطح المخادع.

ما هو طبيعى فى صورة الحياة اليومية يخفى خلفه قلق مكتوم يكاد يفلت عياره على صورة اليوم التالى.

لا أحد بوسعه أن يتكهن واثقا بتداعيات الحوادث بالقرب من النيران المشتعلة فى المشرق العربى.

سألت قيادة نافذة فى «حزب الله» عن توقعاته السياسية والعسكرية لمسارات الحرب على «داعش» فى مدى منظور لا يتجاوز الثلاثة أشهر؟

أجاب بابتسامة حائرة: «لا أنا ولا غيرى يستطيع الإجابة عن هذا السؤال».. «نحن نواجه الموقف ويواجهه غيرنا يوما بيوم».

لا الإدارة الأمريكية تقدر على التكهن مع تقوض استراتيجيتها فى حسم الحرب مع «داعش» بمظاهرات الجو دون تدخل برى، فالتنظيم يتمدد إلى مواقع جديدة والحسابات كلها تتغير بصورة متسارعة.. ولا أى أطراف دولية وإقليمية أخرى تقدر بدورها على رؤية ما قد يحدث خلف سحب النيران المشتعلة، التى تُرى فى لبنان بأكثر من أى بلد عربى آخر.

بمثال واحد فإن التدخل التركى لمنع السقوط النهائى لمدينة «كوبانى» الكردية شمال سوريا بالقرب من حدودها يغير المعادلات كلها، ويضع المنطقة على مسار جديد.

فى تقدير يستند إلى معلومات شبه مؤكدة استبعدت القيادة النافذة فى «حزب الله» التدخل العسكرى التركى ورهنت أى احتمالات لمثل هذا التدخل بضوء أخضر أمريكى. وهذا تقدير ثبت صحته تاليا بعد أحداث «ديار بكر» التركية ذات الأغلبية الكردية والصدام الدموى مع متظاهرين سلميين أسقط ضحايا وضرجت الشوارع بالدم.

المعنى أن التدخل لعبة كبرى حساباتها معقدة ولا يجرؤ عليها أحد قبل أن يتثبت من سلامة الأرض تحت أقدامه.

فى تقدير أغلب السياسيين والصحفيين اللبنانيين تركيا الخاسر الأكبر فى ألعاب السلاح والسياسة وإيران فى مأزق وجودى رغم اكتسابها مواقع جديدة فى اليمن بسيطرة حلفائها الحوثيين على العاصمة صنعاء واتساع أدوارها فى سوريا والعراق ولبنان، فمقابل النفوذ السياسى المتزايد فإنها تستنزف اقتصاديا بقسوة.

حسب معلومات مؤكدة تدفع إيران شهريا للخزانة السورية مليار دولار تسديدا لرواتب الموظفين فضلا عن إمدادات السلاح التى لا تتوقف، وتضخ إلى ذلك أموالا أخرى لدعم وتسليح «حزب الله» وحركة «حماس»، التى تلقت فى عام واحد (٧٥٠) مليون دولار.

ما بين تركيا المأزومة وإيران المستنزفة فإن إسرائيل متحفزة وتتبادل مع «حزب الله» رسائل استباقية بالعبوات الناسفة لما قد يحدث تاليا ومصر هى السؤال الأكبر فى دوائر النخب اللبنانية.

فى ثنايا كلام «حزب الله» فجوات تتسع باضطراد بين طهران واسطنبول وما كان ممكنا التعايش معه من تفاهمات استراتيجية واقتصادية رغم تناقض المواقع فى الحرب السورية وصل إلى طريق مسدود بالألغام قد تنفجر فى أى لحظة.

وفى ثنايا الكلام رهانات على الرئاسة المصرية وسعى حثيث لمد أواصر الثقة مع القاهرة.. «مستعدون لأى إيضاحات فلا يمكن أن نتورط بأى تهديد للأمن القومى المصرى واتصالاتنا مع الإخوان المسلمين شبه متوقفة بعد ثورة يناير».

الرهانات نفسها تتبناها إيران.

التقارب المصرى الإيرانى ليس سهلا لكنه ليس مستحيلا، فهناك اتصالات أمنية ورسائل متبادلة دون أن تصل إلى مستوى التفاهمات السياسية.

بالنسبة للبنانى فإن هواجسه تسبقه إلى مستقبله ولا شىء يدعوه لاطمئنان.

يعتقد بعمق أن مصائره تصنع فى أماكن أخرى.

الانتخابات الرئاسية معلقة على تفاهمات دولية وإقليمية لم يحن وقتها والتمديد للبرلمان تأجيل للأزمة حتى لا تنفجر فى التوقيت الخاطئ.

ما هو مكتوم تحت السطح فيه احتقانات طائفية تتصاعد وأزمة ثقة بين مكونات المجتمع اللبنانى وصلت إلى دعوات التسلح.

المسيحيون أمامهم صور التنكيل العنيف والتهجير القسرى على مرآى العين فى العراق وسوريا ومخاوف أن يتعرضوا لمصائر مشابهة.

هناك من يعمل على تخزين السلاح وهناك من يدعو «أن نفل من لبنان» أو أن نغادرها، فالعيش المشترك بات مستحيلا، وفى الحالتين فإننا أمام مصيبة مروعة.

دعوات التسلح تسرى داخل كل الطوائف، وهذه مقدمات لها كوارثها ما لم يجر تدارك أسبابها والحد من مخاطرها.

الشيعة الذين يلخص «حزب الله» قوتهم العسكرية الأفضل تدريبا وتسليحا تخامرهم أنفسهم أشباح أن يتعرضوا لتهجير قسرى فيما لو أفضت حروب المنطقة إلى تهميش الدور الإيرانى وفى ذاكرتهم الحية ما تبنته الإدارة الأمريكية أثناء الاجتياح الإسرائيلى للبنان عام (١٩٨٢) من دعوات إزاحة كتلهم السكانية من الجنوب إلى الداخل قبل أن تعاود التفكير فى إزاحة أخرى إلى العراق بعد ثلاث سنوات من احتلال عاصمته بغداد فى عام (٢٠٠٣).

فى التوقعات البيروتية فإن القاعدة السياسية لـ«الحريرى» فى المحيط السنى التى تستند لدعم سعودى مباشر وفعال مرشحة للتآكل لصالح أكثر التنظيمات تطرفا، وهذا السيناريو أقرب إلى مشروع حرب أهلية تنقل معارك «داعش» إلى قلب بيروت.

القلق عند حده الأقصى وبيروت بطبيعتها السياسية أقرب إلى مرآة لعالمها العربى تعكس ما فيه وتنعكس عليها الحسابات والسيناريوهات المتضاربة.

مساجلات الفرقاء السياسيين فى بيروت تعيد من وقت لآخر إنتاج الأزمة الداخلية بلغة تشى باحتمال انفجارها.

فى اليوم الثانى لعيد الأضحى داهمت العاصمة اللبنانية، التى كنت وصلتها للتو، أنباء المواجهات العنيفة بأسلحة متقدمة بين مسلحى «جبهة النصرة» ومقاتلى «حزب الله» على الحدود السورية فى «جرود بريتال».

فيما أبرزت فضائيات عربية وقائع الجولة الأولى فى موقعة الأحد على أنها هزيمة ثقيلة تلقاها «حزب الله» بثت فى شريط فيديو لم تبرز بالقدر نفسه ما جرى فى الجولة الثانية من هزيمة فادحة مضادة تلقتها «النصرة» اضطرتها إلى الانسحاب.

الانحيازات السياسية غلبت القواعد المهنية ولغة الشماتة تجاوزت الحرب على الإرهاب والمساجلات علا ضجيجها بلا قاعدة مشتركة تضمن سلامة البلد المهدد فى أمنه.

الاتهامات المتبادلة حملت «حزب الله» تبعات تدخله العسكرى فى الأزمة السورية وأن السبيل الوحيد لحماية لبنان من الإرهاب ربط غرفة عمليات الجيش اللبنانى بغرفة عمليات التحالف الأمريكى لتأمين مستلزمات الدفاع عن الحدود اللبنانية السورية وأضفت على الجانب الآخر مسئولية تبرئة الإرهابيين وتخفيف وطأة الجرائم التى يرتكبونها والنزوع لإلحاق لبنان بالمعسكر الأمريكى.

بدا المشهد كله منذرا باحتمالات انفجار مؤجل.

تحت وطأة المخاوف من مثل هذه الاحتمالات تتبارى الأطراف السياسية المتصارعة بصورة متزايدة لأسباب مختلفة إلى التأكيد على دور الجيش كركيزة للوطنية اللبنانية واللافتات تملأ شوارع بيروت.

لبنان يستدعى جيشه إلى مقدمة المشهد القلق، وهو يعرف بيقين أنه يفتقد بفداحة للقدرة التسليحية والقتالية لمواجهة مسلحى «داعش» و«النصرة».

بشىء من التلخيص الرمزى فإن لبنان يحاول أن يخترع جيشا يستند إليه، وهو تطور إيجابى لكن أمامه وقت طويل.

من يحمى لبنان إذن؟

السؤال لا مفر منه وإجاباته المتضاربة تزيد النار اشتعالا تحت سطح الحياة اليومية التى تبدو طبيعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved