قراءة.. فيما كان

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 11 نوفمبر 2012 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

لن أكتب عن مشهد الجمعة الماضية، على أهميته، وإن كنت أتمنى أن يقرأه أصحاب العلاقة والشأن، قراءة صحيحة، بلا تهوين أو تهويل، بلا إفراط أو تفريط. محتسبين مصلحة الوطن والعباد، لا حاسبين لأرقام تُحشد عند صندوق اقتراع تقترب ساعة الذهاب إليه. أتمنى عليهم أن يقرأوا المشهد كما هو، واقعا ومخاطرا، مدركين لأبعاده فى منطقة تعترم فيها التغييرات، وتتعدد فيها الأبعاد «والأصابع». غير آبهين ولا خاشين لشعبوية خطاب لهذا أو ذاك، فالحق أحق أن يُتبع «والله أحق أن تخشاه».

 

ما يعنينى فى مشهد الجمعة؛ حضورا وهتافات ولافتات، أحد دلالاته التى ربما كانت الأمر الوحيد المتفق عليه بين الجميع: أن حالة الاستقطاب قد وصلت، بل ربما قد تجاوزت منذ زمن مرحلة الخطر الحقيقى. فالميدان الذى تظاهر فيه «إسلاميون» فى زمن يحكم فيه «إسلاميون»، لم يعد كما قال أحدهم مبرِّرا التنادى إليه «ميدانا لكل المصريين»، بل صار كل جمعة ميدانا «لبعض» من المصريين، يعتبرون أنفسهم وحدهم على حق. بل الأدهى أنه صار أحيانا ميدانا يستكثره البعض على آخرين، مثلما شهدنا فى جمعة ١٢ أكتوبر المؤسفة. والحاصل أن «اللغة» لم تكن هى وحدها التى امتُهنت، بوصف كل تجمع «بالمليونية»، بل امتُهن معها «الميدان» نفسه الذى كان قد بات قاب قوسين أو أدنى من أن يُعتبر فى قواميس العالم ومعاجمه «اسما دالا على وحدة شعب».

 

أن يصل الاستقطاب الى درجة أن يتحسس بعض الاسلاميين مما يكتبه طارق البشرى أو فهمى هويدى، فلابد أن نشعر بالقلق. وأن يصل الأمر «بداعية اسلامى» مثل وجدى غنيم أن يهاجم (وليس فقط ينتقد) بضراوة وقسوة ومن منطلقات دينية رئيسا جاء من رحم «الجماعة الاسلامية» الأكبر، فلا بد أن نشعر بالقلق. أليس كذلك؟

 

 

الثابت أننا نشهد الآن معركة حول لا شىء، ونلتفت عن مسائل حقيقية ترتبط بحاضر هذا البلد ومستقبله. ولكنى أعتقد أن التسلسل الزمنى يحتاج إلى مراجعة. فرغم حقيقة أن بعض «الموصوفين» بالليبرالية، لم يطيقوا دفع ثمن الليبرالية بالامتثال «ديموقراطيا» لما يقرره صندوق الاقتراع، ورغم حقيقة أنه كان مؤسفا أن نرى مثقفين للمرة الأولى فى التاريخ يُحبذون، دون خجل «أن يحكم العسكر»، إلا أن ذلك لا يخف بحال حقيقة من استحضر الدين «مبكرا» إلى ساحة السياسة ما بعد الحادى عشر من فبراير. بداية بالاعتراض «الشعبوى» على مصطلحات دون العودة إلى قواميس العلوم السياسية، مثل «الديموقراطية» وكذا «المدنية»، وليس نهاية بالحديث عن أن «السيادة لله» بدلا من النص «الاصطلاحى» المتعارف عليه من أنها للشعب. وبدا أن الإخوان (وكان لى مع بعضهم نقاشات مطولة فى الموضوع فى حينه) ولأسباب ماضوية عدة، فضلا عن أنهم «آثروا السلامة الانتخابية»، لم يحسموا أمرهم مبكرا «علانية»م ن جدال بدا مفتعلا ومفخخا.

 

تعالوا لنراجع روزنامة ما جرى:

 

فى ٢٥ يناير خرج الشباب الى الشوارع مضحين بأرواحهم. وطوال ثمانية عشر يوما ورغم الحشود الهائلة فى الميدان لم يكن هناك بين الجميع غير الحب «وإيثار النفس».

 

فى ١١ فبراير أُجبر مبارك على ترك الحكم واحتفل الناس حتى الصباح بوحدتهم وبما تصوروه بداية لمصر جديدة.

 

صباح اليوم التالى نزل الشباب فتيانا وفتيات لينظفوا الميدان متعاهدين على أن يكونوا يدا واحدة تبنى مجتمعا جديدا يقوم على العدالة والمساواة والحرية. ونظر العالم كله الى ما يجرى بكل دهشة وإعجاب.

 

ثم فجأة، وخارج السياق.. صحونا على من يتنادى لحرق الأضرحة. ولعل بيننا من يذكر دعوات انتشرت فجأة على مواقع التواصل الاجتماعى وصلت إلى حد التنادى لهدم الأهرامات «وصنم» أبى الهول، لم نول الأمر اهتماما ربما كان يتطلبه، حتى فوجئنا بتظاهرات فى الاسكندرية وأمام جامع النور لا لتطالب بالقصاص للشهداء أو بالقضاء على الفساد أو بمحاسبة الذين أفسدوا الحياة السياسية فى مصر لثلاثة عقود، بل لتطالب بعودة كاميليا رغم أن قضيتها أو بالأحرى «قصتها الشخصية جدا» قديمة. ورغم أننى لا أحب التفتيش فى الضمائر، أو افتراض سوء النوايا، الا أن الأمر بدا للمراقب من بعيد، وكأن هناك من يريد أن يوقظ الحكاية القديمة «الآن» لتلتفت الأمة عن مطالبها التى هى أولى بالاهتمام.

 

لا أتحدث هنا عن «السلفيين» بالمطلق، أو بوصفهم «من يتبعون السلف الصالح»، فاللفظة، كما غيرها من تعبيرات ومصطلحات لحقها كثيرٌ من العنت والشطط تحتاج معه الى التدقيق فى التعريف، كما أن الأخوة، كما يعلمون ونعلم، على ما يذهب إليه «شيوخهم». وفى هذا تفاوت كبير. (راجعوا الموقف من جمعة الشريعة، وكذا الموقف من قضية أبواسماعيل)، كما أننى لا أفترض أبدا سوء نية من أحد أيا كان فعلهم «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا» ولكنى وأنا أعلم أنهم أكثر منى علما، أرجوهم أن يعودوا الى فقه الأولويات أو أن يتركوا لنا دنيانا فنحن أعلم بها كما يقول المعصوم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

 

أيا ما كان، فقد كان أيضا أن ساهم فى الأزمة، ما كان من الارتباك واللا وضوح فى إدارة العسكريين لفترة الأشهر السبعة عشر الأهم (من الحادى عشر من فبراير ٢٠١١ وحتى الثلاثين من يونيو ٢٠١٢) والتى اتسمت ــ رغم وفاء من الرجال بوعدهم الأساس ــ بقدر ليس هين من تناقض فى الرؤى والأهداف، وبرغبة «مكتومة ومفهومة» بالاحتفاظ بالمكان أو المكانة، وبسذاجة أو براءة من عسكريين لا يجيدون «ألاعيب الساسة والسياسة»، فكان أن ضاعت «البوصلة»، أو اضطرب مؤشرها أحيانا «بتجاذبات» هنا وهناك. وما أدراك حين تضيع البوصلة من جندى فى الميدان. وقتها بدا لافتا ومحزنا ــ وربما ذا صلة ــ كلام سمعناه يوما لواحد منهم يتحدث ــ هكذا ــ عن مسئوليته عن «الشائعات» فى الميدان. ويومها سمعنا عن ائتلافات تم تخليقها، وحوارات جرى توجيهها، وأحزاب كرتونية جرى استدعاؤها من أضابير أجهزة النظام القديم، ليمكن توظيفها «رقما زائفا» فى معادلات القوى السياسية. وما أدراك كم انتهكت براءة الشباب تلك «القوى السياسية»، بتوازناتها الزائفة، ولغتها اللزجة، ومعادلاتها القديمة.

 

وكان للأسف أن استطاع من شاء أن يحول المشهد من مسيحيين يرددون دعاء الشيخ محمد جبريل فى جمعة تنحى مبارك ١١ فبراير، لجماعة من المسلمين ترفض صلاة الفجر فى الميدان خلف إمام «لا يلتزم بالسنة»، كما قالوا يومها (هل تذكرون يوم كان هناك خطيبان للجمعة وإمامان للصلاة)!

 

ثم كان للأسف أن فقد ثوار الميدان براءتهم، وكل شعاراتهم العفوية الصادقة. فلم تعد الـ«إيد واحدة» ولم يعد «الشعب كله يريد»، بل صار «كلٌّ يغنى على ليلاه»، مدعيا أنها الثورة. والحقيقة أن: «كَلٌّ يَدَّعـى وّصْـلا بـلَيـْلَى /ولـيلى لا تُقْـرُ لهـم بذاكـا»، كما يقول البيت المختلف على نسبته إلى المتنبى أو أبى العتاهية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved