القاهرة: مدينتى وثورتنا (٣٩)

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 11 نوفمبر 2015 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

أكتب هذه الكلمات فى نهايات نوفمبر ٢٠١٢ وثورتنا موجودة حية فى مواقع متعدده. هذه بعض منها:
غزة: أثناء العدوان الإسرئيلى الأخير على غزة (عمود السحاب) سارع العديد من النشطاء المصريين الشباب إلى رفح ورابطوا على الحدود إلى أن سُمِح لهم بالمرور. وقفوا تحت القصف مع جيراننا الفلسطينيين، تبرعوا بالدماء، وثقوا ما رأوه بالصور والفيديو، وجمعوا قوائم بالأدوية والمعدات المطلوبة.. كل هذا لم يكن ليحدث فى أى مرحلة من الأربعين عاما الماضية. اليوم، يقف أهل مصر ــ حرفيا ــ كتفا لكتف مع فلسطين.
جامعة النيل فى القاهرة تحاول الدفاع عن مبانيها التى قررت الحكومة إهداءها إلى الفيزيائى المصرى الكبير، الدكتور أحمد زويل. رفع الطلبة والأساتذة البلاغات إلى المحاكم، وأقاموا اعتصاما دام أكثر من شهرين أمام جامعتهم الموصدة فى وجوههم، وأقاموا الدروس والامتحانات فى الشارع، ومنذ يومين صدر حكم المحكمة بحقهم فى الاحتقاظ بمبانيهم.
فى جميع مستشفيات مصر، الأطباء مضربون منذ خمسة وستين يوما. يطالبون بالشفافية فى الميزانية، وبتخصيص ١٥٪ من ميزانية الدولة للرعاية الصحية، وبالأدوات التى تمكنهم من أن يقدموا للناس رعاية صحية آدمية محترمة. وفى محاولة مبدعة للفت انتباه الحكومة حاكوا مشجعى كرة القدم وكونوا «ألتراس وايت كوتس»، واقتبسوا أناشيد الألتراس (مع تغيير بعض العبارات!) والآن يملأون الشارع صخبا وقت احتجاجاتهم.
لا يمر يوم دون احتجاج تلقائى من نوع أو فئة ما. يحتج العمال على التلاعب بمصانعهم وإنكار حقوقهم. تحتج الأمهات على عدم وجود التطعيمات لأطفالهن. يحتج الأطباء على فقر المستشفيات فى المعدات والموارد. عمل الثورة اليوم هو التواصل مع كل واحد من هذه الاحتجاجات، وتسييسها، وتمكينها، وتشبيكها.
كلمة السر: «التواصل».
التواصل يتم. ليس فقط داخل مصر، وليس فقط بين الشعوب العربية، ولكن بين شعوب العالم. حين رفع المتظاهرون فى ولاية وسكونسن علم التحرير أرسل لهم ثوار مصر هدية بيتزا ديلفرى! وفى إسبانيا فى الشهر الماضى هتف المتظاهرون الأسبان على إيقاع المظاهرات المصرية. فى مصر نرقب باهتمام ما يحدث فى اليونان. وفى بلاد العالم كلها يخرج المتضامنون من أجل دعم فلسطين. النظام الذى يقهر الناس ويستغلها نظام عالمى، وتتشكل الآن ضده حركة مقاومة عالمية.
لسنا وحدنا.
● ● ●
٣١ يوليو ٢٠١٣
أكتب هذه الكلمات الأخيرة وأنا على شاطئ البحر، أنتظر نهاية العالم، وآمل ألا تأتى.
أقنعنا نفسنا بأن نبعد عن القاهرة ٣ أيام، نبتعد عن التحرير الصاخب بإحساس الانتصار، التحرير الذى نشعر فيه ــ حاليا ــ بالغربة.
كل شىءهنا، فى بيت أمى الصغير على الساحل الشمالى، باقٍ كما هو؛ الرمال بيضاء شاهقة والبحر متعدد الزرقات. حين لمحت الألوان من الطريق شعرت وكأنى أعبر بخفة إلى الماضى. لكن خالد ليس «ماضى»، وها هو، بشهوره الثمانية عشرة، يخطو بإصرار فى الرمال، يترنح قليلا، يشير بيديه، يرسل ابتساماته المضيئة إلى وجوهنا، يلتقط القواقع والأغطية البلاستك لعلب العصير بدقة تُرجِف القلب. أبوه، علاء، ما زال تحت سحابة دعاوى قضائية مختلفة ــ قضايا جديدة أقامها نظام الإخوان المسلمين فانضمت إلى القضايا التى أقامها نظام المجلس العسكرى ــ لكنه فى هذه اللحظة يقف منغمسا حتى خاصرته فى الأمواج الحنونة، يُقِر ابنه فى العوامة الصفراء الزاهية التى تمدها لهما منال.
أحمد سيف يجلس فى ظل الشمسية البامبو الواسعة. يسترد عافيته فى كل يوم يمر بعد الأزمة القلبية التى كادت تودى بحياته قبل شهرين. الطيارة الورقية الزرقاء التى كان يعلم خالد كيف يطيرها ترتفع وتتقافز وتنقض فوق رءوسنا، مربوطة إلى طرف الشمسية.
فى القاهرة التى تركناها يعتصم الآلاف من الإخوان ومؤيديهم على طرفى المدينة: فى ميدان رابعة العدوية فى الشمال الشرقى فى الطريق إلى المطار، وفى الفسحة الواقعة بين جامعة القاهرة وحديقتى الحيوان والنباتات فى جنوب غرب المدينة. مر على اعتصامهم ثلاثة وثلاثون يوما، ويقولون إنهم سيواصلونه حتى يعود إلى الرئاسة الدكتور محمد مرسى ــ الذى أزاحته القوات المسلحة عن السلطة بعد مطالبات شعبية بانتخابات رئاسية مبكرة. وفى الأسبوع الماضى، ألقى الفريق عبدالفتاح السيسى، القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع، خطابا قصيرا طلب فيه من الشعب أن «يفوضه» ليتعامل مع «الإرهاب» ــ أى ليُنهى اعتصامات الإخوان المسلمين، وتظاهراتهم، وانهمر الناس إلى الشوارع يغنون ويهتفون له بالتفويض. أعطى الناس الفريق شيكا على بياض فانطلقت الطائرات المقاتلة ترسم قلوبا فى السماء.
أمس، أعلن وزير الداخلية، اللواء محمد إبراهيم، أن الشرطة والجيش ينتويان فض الاعتصامات فى الأيام الأربعة المقبلة. واللواء شرطة محمد إبراهيم هو إحدى بقايا حكومة الدكتور محمد مرسى فى الوزارة الجديدة.
أما عن محمد مرسى فهو محتجز فى مكان غير معلوم. زاره أمس ممثلون للاتحاد الأوروبى ووجدوه عفى الصحة متحدى المزاج. الكثير من قيادات الإخوان محتجزون. أربعة منهم، ضمنهم المرشد محمد بديع، مرشد الجماعة، موجودون بداخل اعتصام رابعة، وقد صدرت بحقهم أوامر ضبط وإحضار. الإخوان ومساندوهم ينظمون المظاهرات فى أماكن متفرقة من البلاد. حين يشتبكون مع المواطنين يسقط قتلى. البلاد زاخرة بالسلاح الذى دخل إليها من ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافى: الآلى والرشاش والآر بى جى. فى سيناء هناك حرب تدور على نار هادئة، وقد صرحت الجماعة بأن سيناء لن تهدأ إلا إذا عاد مرسى رئيسا.
العالم كله يتناقش حول ما إذا كان ما حدث فى مصر منذ شهر انقلاب عسكرى أم إجراء سياسى يستمد شرعيته من تعبيره عن إرادة أغلبية الشعب ــ الملايين التى خرجت إلى الشوارع فى ٣٠ يونيو تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة؟
فشل الإخوان فى إدارة مصر فشلاً فاق أكثر التوقعات تشاؤماً، فى ظرف اثنى عشر شهرا خسروا كل ما عملوا من أجله مدة ثمانين عاما. فقدوه حين أثبتوا، المرة وراء المرة، أن مشروعهم الحقيقى الوحيد هو تمكين جماعتهم. بدأ هذا فى نوفمبر ٢٠١٢ حين أصدر الرئيس محمد مرسى إعلانا دستوريا يمنح نفسه سلطات مطلقة. بعد بضعة أيام اضطر للتراجع وإلغاء المرسوم ــ لكنه كان قد قام بتعيين الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، ووَضَع (من رأى الناس أنه) رَجُلَه فى منصب النائب العام. ثم أخذ الشعب يرقب رئيس الجمهورية الجديد وحكومته، وهم يصطفون إلى جوار أعداء الثورة، يُطرون على وزارة الداخلية ويكرمونها. رفعوا مرتبات العاملين بالداخلية والعاملين بالقوات المسلحة. شغلوا أنفسهم بإطلاق المبادرات الودية تجاه طاقم حسنى مبارك من رجال الأعمال الهاربين أو السجناء، وتجاه صندوق النقد الدولى ودول الخليج ــ وتجاهلوا الاحتجاجات العمالية والاجتماعية، التى بدأت تتزايد فى أرجاء البلاد. وبعد قليل رأينا الشرطة تفض اعتصامات العمال مستعملة الكلاب، وصار النشطاء الشباب يختفون من الطريق ثم يظهرون فى المشرحة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved