اللغة والموسيقى: الاثنتان تتدهوران

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 12 يناير 2016 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

اقرأ لخبراء إن عشرات اللغات تختفى كل عام ومئات اللغات تتعرض لسوء استخدام وتدنى المستوى قبل أن يأتى عليها الدور فتندثر مثل سابقاتها. من ناحية أخرى، اسمع هواة يتحسرون على حال الموسيقى. اختفت، فى رأيهم، أو كادت تختفى، الموسيقى الرفيعة غربية كانت أم شرقية. يوما بعد يوم يتدهور الذوق ويقل عدد المؤلفين والملحنين المعتبرين.

يحزننى أحيانا حال اللغة العربية، سواء تلك التى أسمعها فى الشارع أو الصادرة عن قنوات التليفزيون العربية، والمصرية أو المكتوبة فى الصحف جميع وإن بدرجات متفاوتة. اللغة التى تعاملنا معها ونحن صغار كهواية أصبحت ثقيلة على الأذن ان لم تكن مقززة ومقلقة، وفى أحيان أشعر بالإهانة وأنا أسمعها تصدر من حناجر وأفواه من يزعمون بأنهم قادة فكر وسياسة أو من يتولون مسئولية تلقين تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات.
التدهور مستمر فى الموسيقى برغم العدد الكبير من معاهد الكونسرفتوار ورغم الزيادة المطرودة فى عدد «الموسيقيين» المتخرجين فيها. التدهور مستمر أيضا فى اللغات رغم كثرة المدارس والكليات المتخصصة فى تدريس اللغات، وبخاصة اللغة العربية، ورغم الزيادة المطردة فى عدد الخريجين من أهل اللغة، ولكن يبدو واضحا أن هذه الزيادات فى خريجى معاهد الموسيقى واللغات لا تختلف نوعيا عن الزيادة المطردة فى خريجى كليات السياسة والهندسة والطب، كلها زيادات فى العدد وتدهور فى المستوى.
* * *
التدهور سمة عامة فى حال كثير من فروع العلم والمعرفة، ولكن للموسيقى واللغات وضعا خاصا فى هذا التدهور. أوجه الشبه بين الموسيقى واللغة عديدة ولا تقتصر على ان مصدرهما أو أصلهما واحد وهو الصوت. نعرف الآن مثلا أن مستوى الموسيقى كمستوى اللغة فى مجتمع ما يرتفع مع صعود ثقافة المسرح وازدهار الأدب. لاحظ مثلا أن العصر الذهبى للموسيقى الغربية شهد انتعاش الأدب المسرحى والرواية والثقافة والفكر بشكل عام. ولعلنا لا نبالغ حين نقول، نقلا عن متخصصين، إن عصر الموسيقى الشرقية الرفيعة، فى مصر بخاصة، ترافق مع نهضة أدبية وانفتاح سياسى وبزوغ ثقافة المسرح.
حدث أيضا ان الموسيقى واللغة فى أوروبا تأثرتا أيما تأثر بفضل عنصرين جوهريين.
تأثرتا ببزوغ الدولة القومية فى أوروبا. نعرف ان كبار المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين كانوا يفخرون بانتمائهم إلى وطن بولونى أو وطن فرنسى أو تشيكى أو روسى أو إيطالى، وأنهم، فى غالبيتهم العظمى، ورغم تنقلهم بين دول أوروبا وشهرتهم فى جميع أنحائها، كانوا يهدون مؤلفاتهم لأوطانهم متفاخرين بها. فى تلك الأوقات اشتهرت، ومازالت مشهورة، قطع موسيقية وأوبرالية وطنية، كتبها موسيقيون بدون تكليف وباقتناع حقيقى وكامل، ولذلك بقيت إلى يومنا هذا محل تقدير واعجاب. كان ارتباط مؤلف الموسيقى، فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بوطنه وانشغاله بالحركة القومية فى بلاده وبأجواء الصراعات القومية فى أوروبا سببا رئيسا لروعة الإنتاج الموسيقى فى ذلك العصر، وقد شهدنا جانبا من هذا الدور فى تطور الموسيقى المصرية فى ثورة ١٩١٩ وفى بعض الألحان القومية الأشهر فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
العنصر الثانى الذى تأثرت به الموسيقى، وكذلك اللغة، فى أوروبا بخاصة، هو الدين الذى أثر، فى مرحلة مبكرة ومرحلة متأخرة، تأثيرا مباشرا فى الموسيقى. أثر إيجابا، بدون قصد، حين شجعت الكنيسة الترانيم داخل كنائسها وسمحت بتطوير ألحانها ونصوصها. وبالفعل تطورت هذه الترانيم حتى صارت فى وقت من الأوقات تشكل القاعدة الصلبة التى قامت عليها الموسيقى السيمفونية والأوبرالية الأوروبية. بل إن بعض كبار المؤلفين الموسيقيين ألفوا قطعا سيمفونية وأوبرالية كثيرة بطابع دينى مثل أوبرا برسيفال واغتصاب لوكريسيا. يقابل هذا التطور فى أوروبا تطور مماثل فى الموسيقى الشرقية الحديثة عندما اعتمدت على موسيقى وألحان الموشحات والأندلسيات وعلى نصوصها. أضف فى ثقافتنا دورا لم يوجد مثيل له فى الديانة الغربية، وهو دور مقرئى القرآن الكريم، هؤلاء اعتمدوا نصا رائع الأسلوب والمعنى وتصرفوا بحس موسيقى رفيع، وخرج من صفوفهم بعض كبار الموسيقيين العرب.
****
أما الجانب السلبى للدين كعنصر مؤثر فى تطور الموسيقى فقد كشفت عنه مسيرة العولمة حسب رأى ستيفن بينكر الذى قال ان العولمة بقوتها التدميرية والتخريبية نخرت فى عظام الدولة القومية وشرعيتها، ودفعت من ناحية إلى ظهور صور من الدين متطرفة أو بدائية كما حدث فى العالم العربى والإسلامى، أو دفعت من ناحية أخرى إلى إضعاف دور الدين ومكانة مؤسساته بإثارة الشك فى بعض مسلماته وقواعده مثلما حدث مع الكنائس المسيحية فى دول الغرب. المؤكد أنه فى ظل هذه العولمة بزغت ثقافة جديدة تقوم على دولة فقدت جانبا مهما من هيبتها وسلطتها، ودين فقد جانبا مهما أيضا من تأثيره. كانت النتيجة ما شهدناه فقد مطلع الستينيات من القرن الماضى من موجات تمرد، وبخاصة بين الشباب. هذا التمرد، مصحوب بالزلزال الأخلاقى الذى فجره قرص منع الحمل، دفع الشباب وقطاع واسع من الكبار، إلى ما يسمى بموسيقى المهرجانات الصاخبة وإلى ما يعرف بسلوكيات المشاعر المباشرة، مشاعر تثور بسرعة وتهدأ بسرعة. دفع أيضا إلى تبنى اسلوب إقامة علاقات سريعة على نمط الأكلات السريعة.
***
ترافق مع موسيقى المهرجانات الصاخبة ثورة الاتصالات الإلكترونية وبخاصة التويتر والفيسبوك وبقية العائلة... عائلة تتراسل بلغة لا تحترم أصول اللغات المعروفة وقواعدها، وبأساليب لا تحترم ما استقر عليه السلوك الاجتماعى للعائلة العضوية، وبسرعة لا تحترم التغير المتدرج فى السلوك الإنسانى فى الظروف العادية. الموسيقى تدهورت فصارت مهرجانية وصاخبة وخالية من قواعد التناغم الضرورية لموسيقى راقية، ولغة تدهورت فصارت مسخا.
* * *
اللغات كالموسيقى، منها الجميل والرشيق ومنها الخشن. اسمع أغنية أو قطعة موسيقية فيجرنى الحنين إلى تجربتى مع شعب عشت بينه أو إلى واقعة تركت كنوزا من الذكريات أو خلفت جروحا رفضت أن تندمل. اسمع إنسانا يتحدث بالإيطالية، أتذكر فورا دومينجو مودونيو وبوتشيللى وكوكبة من أقطاب الغناء فى إيطاليا، أو أتذكر جوسبى فردى وبوتشينى. اسمع لأحد من هؤلاء أغنية أو عملا موسيقيا أو أوبراليا فتتراءى أمامى مدينة فلورنسا وميناء بورتوفينو وصخرة سورينتو وجزيرة كابرى وكوليسيوم روما وصرح الجندى المجهول، الموسقيى تتكلم تماما كما تتكلم اللغة، كل منهما وعاء للذكريات بحلوها ومرها لا ينضب.
***
ينقلون عن المفكر الفرنسى شارل نودييه أنه كتب عام ١٨٢٨ يصف اللغة اليونانية بصوت مياه نهر Peneus حسب الأسطورة الاغريقية وهى تنساب برقة وقدسية، ويصف اللغة الإيطالية بصوت سقوط المياه فى شلال هادر وبصوت ارتعاد شجر الزيتون.
جرت العادة كذلك أن يعتبر الناس لغات البلاد الباردة ثقيلة «كصخب الأنهار المتوحشة»، ويعتبرون لغات بلاد التضاريس الصعبة جافة وقبيحة، ولغات بلاد تضاريس السهلة ناعمة وحلوة. لاحظ أن كل شعب يعتبر لغته الأجمل، حتى اليابانيون يعتبرون لغتهم الأجمل فى العالم ويقدرون تقديرا خاصا جمال اللغة الفرنسية وجمال لغات جنوب المحيط الهادى وعددها ١٢٠٠ لغة، أى ثلث لغات العالم.
***
ليست كل الموسيقى ناقلة جيدة للعبارات العاطفية ومشاعر الحب، وكذلك اللغات فبعضها ناقل ممتاز لمشاعر الحب والعواطف بشكل عام، وبعضها ناقل سيئ، وربما طارد للحب أو متأفف منه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved