نحو فكر إسلامى معاصر

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 12 يناير 2018 - 11:10 ص بتوقيت القاهرة

«من تتبع مقاصد الشرع فى جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها حتى وإن لم يكن فيها نص يخصها، فإن فهم الشرع يوجب ذلك وحده، ومثال ذلك من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أن يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة».

هذه الكلمات من أعظم ما قاله سلطان العلماء العز بن عبدالسلام منذ مئات السنين، وهى تعنى فيما تعنى أن الشريعة مصلحة كلها، وتدور حولها، فالشريعة جاءت من أجل الإنسان ولمصلحته.

الشريعة جاءت لخير الإنسان، وكل ما فيه مفسدة ترفضه الشريعة حتى وإن لم يكن فيه نص، وكل ما فيه مصلحة تحبه الشريعة وتأمر به حتى وإن لم يكن فيه نص، فليست المصالح والمفاسد هى ما نصت عليه الشريعة فحسب، ولكن ما عرفه الناس وتقينوه فى حياتهم حتى وإن لم يرد به نص، فنصوص الشريعة ترشدك فقط لنماذج من المصالح والمفاسد ولكن ليس لجميعها.

ومن أجمل ما قاله أ/ أمين الخولى «من أجدى ما قدمه المجددون للحياة الدينية فهم الدين على أنه «إصلاح الحياة» وذلك الذى تسمعه مجلجلا فى فهم عمر بن عبدالعزيز حين طلبوا منه أن يأمر للكعبة بكسوة كما كان يفعل الخلفاء من قبله، فكتب إلى عامله على مكة يقول: «إنى رأيت أن أجعل ذلك فى «أكباد جائعة» فإنها أولى بذلك من البيت».

هذه الكلمات العبقرية من الخليفة الراشد الخامس تمثل حقيقة الإسلام ذلك الدين العظيم الذى جاء رعاية للإنسان وحماية له وتحقيقا لمصالحه ودرء لكل مفسدة يمكن أن تطاله.

ترى كم ضيعت حكومات المسلمين أكبادا جائعة وأجسادا عارية وعقولا فارغة من رعاياهم، وكم ضيعت الحركة الإسلامية فى العالم الإسلامى عشرات الآلاف من خيار أبنائها وألقت بهم فى غياهب السجون من أجل صراع سياسى فارغ لم تكسبه مرة من المرات ولن تكسبه أبدا فيما يبدو لكل ذى بصر، وإذا كسبته يوما خسرته دهرا.

إننى حينما أرى أكبر أستاذ فى جراحة ومناظير المسالك البولية فى الشرق الأوسط كله ملقى فى السجن سنوات من أجل انتمائه لجماعة دخلت فى صراع سياسى لا نهائى وغير مجدٍ، أدرك الخطأ الفادح لقادة الحركة الإسلامية فى حق أبنائها النابهين الذين لم تتركهم لأمتهم لتستفيد منهم، ولم تحسن استغلالهم فى خدمة الدين والوطن، ولكنها جعلتهم كالأوراق المحترقة فى ظلال صراعات سياسية على حكم زائل، فلاهى أبقتهم فى حضن أمتهم يعيشون حياة طبيعية ولا هى ضمتهم إليها دون أن تدخلهم فى مهلكة لا يطيقونها وليسوا أهلا لها، ولا يحسنون خوض غمارها لأنهم ليسوا من أهلها.

وقبل أن نلوم الحكومات المتعاقبة على سجن وقهر هؤلاء الأفذاذ فعلينا أن نلوم كل من حرم تيار الأمة العامة منهم وأخذهم من سياق المجتمع العام الذى كان يمكنهم نفعه فضلا عن نفع أسرهم ومن حولهم، وخدمة مجتمعهم الذى كان سيرفعهم حينما يرى أخلاقهم وتدينهم وبعدهم عن صراع الآخرين على أعراض زائلة لم تنفع يوما وطنا ولا دينا.

على الحركة الإسلامية المؤدلجة سياسيا والتى تدرك يقينا أنها ستنتقل من صراع إلى صراع، ومن حرب إلى حرب، أن تترك هؤلاء الأفذاذ كى ينفعوا مجتمعهم بعيدا عن صراعات السياسة القذرة التى لا يرحم فيها المتصارعان بعضهم بعضا، وعلى الأقل تحفظ لهم حريتهم وكرامتهم الدينية والإنسانية قبل أن تداس وتنتهك.

الإسلام والدين لم يأت ليهلك صفوة شبابه كل عشر سنوات ويلقيهم إلى المجهول والسجون أو الفرار من بلد لآخر يتسولون العيش من حكومات البلاد الأخرى التى يعد بعضها أسوأ بكثير من حكومات أوطانهم.

فمتى نهتم بالإنسان الذى هو جوهر الرسالة المحمدية، وكل الرسالات، لقد أبرأ المسيح عليه السلام امرأة مريضة يوم السبت فغضب الكهنة المراءون منه فقال المسيح لكبيرهم «يا مرائى لو سقط حمارك يوم السبت فى بئر لأخرجته وأبرأته، ولكن لو مرضت امرأة فيه لا تريد أن ابرأها، إنما جعل السبت من أجل الإنسان ولم يجعل الإنسان من أجل السبت».

إننا نحتاج لفهم عمر بن عبدالعزيز للإسلام، والله لو كنا على فهمه وتقواه، ما جاعت بلاد العرب وما قسمت وما تخلفت وما حشر الآلاف من الشباب إلى السجون وما كان هناك صراع سياسى على الإطلاق، لا من جهة هذا ولا ذاك، لقد تصالح الذئب مع الغنم فى عهد عمر بن عبدالعزيز، أما العرب والمسلمون فكل دولة تخاصم الأخرى، وكل فصيل يطعن فى الآخر، وكل مذهب يقتل أنصار المذهب الآخر، وكأن الآية التى نزلت فى غيرهم قديما تصف حال العرب حديثا «بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

إننا بحاجة لمن يوسع على الناس لا من يضيق عليهم، ولمن يبشرهم فلا ينفرهم ومن يهديهم ولا يكفرهم، يقول يحيى بن أبى كثير وهو من أعلام الفقهاء وأئمة الحديث «ما وجدت عالمين إلا كان أكثرهما توسعا أكثرهما فقها».

لقد أعجبتنى كلمات الراحل زكى نجيب محمود «ليس الفقيه من يحفظ ما قاله الفقهاء السابقون وإنما من درس ما قاله هؤلاء الفقهاء ليصوغ لنفسه فقها كما صاغوا، وليكون له رؤية كما كانت لهم صياغة ورؤية، فهو يدرسهم ليتذوق الرحيق لكى يتسنى له أن ينخرط فى تاريخ الفقه فقيها، وصدق والله فإن آفة أمتنا تتلخص فى الاستبداد من جهة وغياب التجديد فى الفقه والفكر الإسلامى، وكلاهما موروث قديم فى أمة العرب ينبغى التخلص منه، فتأخذ من القديم أجمله وأحلاه لتصنع طعاما أشهى ليومك، وتترك فكرا جديدا لغدك.

إن أكبر كارثة ألمت بالعقل الإسلامى والعربى أنه يدارى تخلفه الحضارى والعلمى والتقنى وشيوع الجهل والاستبداد مع تفوق الغرب الحضارى والعلمى والتقنى وحقوق الإنسان عندهم بكلمات مثل «لهم الدنيا ولنا الآخرة» وهو تعبير بائس وتستطيح للمشكلة، فهل جعل الله الجنة للكسالى والجهلة الذين جعلوا أمتهم فى مؤخرة الركب أو غمروها بالاستبداد تارة أو بالتكفير الدينى أو السياسى، أو القتل بالاسم أو المذهب أو الوظيفة أو العرق، وغمروا أوطانهم بالكراهية أو التفجيرات والاغتيالات تارة، أو الصراعات السياسية والمذهبية أخرى.

الآخرة لأصفياء القلب الذين يقدمون مصالح الإسلام والأوطان على ما سواها ويسعون لتقديم نموذج حضارى رائع يتصالح مع الكون والناس، ويبنى على منهج عميق لرسالة الإسلام التى تبنى ولا تهدم، تيسر ولا تعسر، وتبشر ولا تنفر، وتصون الدماء ولا تهدرها، وتوحد الوطن ولا تمزقه، وتدعو ولا تكفر، وتبيع جاهها من أجل حقن الدماء، وتقبل المتاح من الخير لئلا يضيع الخير كله، ولا تريد أن تصنع جاها كاذبا على آهات وجماجم أنصارها وأتباعها.

أمة العرب فقدت بلادها تعاليم الإسلام الحقة التى وحدت من قبل هذه الأمة وجعلتها مرهوبة الجانب قوية الجناح، فأمة العرب لم تدرك الدين بمعناه الحقيقى، ولم تدرك الدنيا بتقدمها وتطورها العلمى والتقنى والمادى، فلا أدركت صلاح الدنيا ولا عز الآخرة، فقد وقعت حائرة بينهما.

والأغرب من ذلك كله أن المسلمين صار بعضهم يضن بالإسلام على بعضهم البعض، وكل همه أن يثبت أن إسلامه هو الإسلام الصحيح وهو الدين الحق، وأن مخالفيه فى الرأى أو الفكر أو الجماعة أو المذهب ليسوا من الإسلام والدين فى شىء وأنهم لا يحملون من الإسلام إلا اسمه ورمزه.

وذلك حتى يبقى الإسلام رهينة عندهم وحدهم، والدين حكرا عليهم، وأنهم فصيل الحق أو جماعته وأن ما عداهم لا يحمل إلا وهما.

والأغرب أن كل فصيل يدعى أنه جماعة الحق الأوحد، وكأن الحق والصواب لا يتعدد ولن يبتعد عنهم ولن يأتى عند غيرهم.

ونسوا جميعا أن مهمتهم دعوة الناس إلى الدين وترغيبهم فيه وحثهم عليه وتشجيعهم على القرب منه، وليست مهمتهم دفع الناس عنه أو إخراجهم منه.

فمهمتهم إدخال الناس فى دين الله بالحب والدعوة الصحيحة وليست مهمتهم إخراج الناس من دين الله بتكفيرهم أو تفسيقهم أو تبديعهم.

فمهمة الدعاة دعوة الناس، ولكن أكثرهم يجعلون مهمتهم إثبات أنه كافر، أو خارج عن الدين بقول أو فعل أو ذنب، فلو وقع منه ذلك فمهمة الدعاة أخذهم مرة أخرى إلى طريق الله، كالأم حينما يشرد وليدها أو يغضبها لا تطرده من البيت ولكن تسوقه بلطف وترفق مرة أخرى إلى جادة الصواب تفعل ذلك وهى تحبه ولا تكرهه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved