إنسانٌ طبيعيّ

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 12 يناير 2018 - 11:10 ص بتوقيت القاهرة

وما الطبيعيّ؟ سؤال يُفتَرض أن تكون إجابته سهلة تلقائية، وبديهية أيضًا؛ الطبيعيّ مِن الأشياء هو ما ساد، وجرى به العرفُ زمنًا، وهضمته مَنظومةُ العادات والتقاليد. توافق عليه الناسُ وقبلوه، أدمجوه في حياتهم، ولم يعد يثير لديهم دهشة أو استغرابًا، حتى وإن استحقهما.

***

في العلوم الإنسانية ما يبحث أمرَ ”الطبيعيّ“ و“المُنحرف“، يضع لهما التعريفات، ويُبرِز المُتضادَّات والمُتناقِضات، يُأصِّل القاعدةَ وإطارها، ويبحث الاستثناءاتَ، ويجد لها الدوافع والتفسيرات. يتَّسم الطبيعيُ بالنسبية؛ ما يقبله مُجتمَع ويتعامل معه بمرونة، قد يرفضه آخر؛ ويعده أمرًا منكرًا إذا ما أتى به أحد أفراده.

***

الكذب مثلًا يبدو فعلًا ومسلكًا طبيعيًا في مجتمعات يظللها فساد الحكم؛ لا يجد استنكارًا ولا رفضًا قاطعًا مِن الناس، على عكس ما يفعل في مُجتمعات أخرى؛ تقوم على قواعد الصدقِ، والشفافية، وترى الكاذبَ استثناءً غير محمود، يقوم مقام المجرم الذي يستحق الاحتقار والنبذ وفي الأغلب العقاب.

***

التقينا ودارت مُحادثة خارجة عما يؤلَف في لقاءات الأصدقاء؛ مُحادثة حاول المشاركون أن يتفقوا مِن خلالها على توصيف ”الإنسان الطبيعيّ“ وتعريفه.

قال أحدنا إن الإنسانَ الطبيعيّ هو بالسليقة إنسانٌ سعيد، قادر على التفاعل في محيطه ومع بيئته بلا مُنغِّصات مَصنوعة، الإنسان ”الطبيعيّ“ إنسانٌ لا يُضطر لاستهلاك ذاته؛ جسمه ونفسه وأعصابه فيما لا يريد، لا يدور في حلقات مُفرغة أو مُغلقة.

***

الإنسان الطبيعيّ في رأي قسمٍ مِمَن تساجلوا وتبادلوا الأفكار، أشبه بالكائن الذي ظهر في أزمنة أولى، لم ترهقه شروط الحضارة ولم تثقله أوزارها. إنسانٌ أقرب إلى الطبيعة، شغله الشاغل التأمل فيها، يعمل مُستلِذًا بالعمل، لا يعرف دوران الثور في الساقية ولا حرثَ البحر. إنسان يمد بصره بلا حدود، لا يحصر عينيه في ثقب، ولا يخنق عقلَه في صندوق.

***

قيل: الإنسان الطبيعيّ هو إنسان ذو عقل حُرّ، توافرت له سبلُ حياة سَلِسة بلا مُغالاة ولا تعقيد، لا يُجبره أحد على كد وشقاء، لا يرهقه سعي مُتواصل يُزهق الأنفاسَ، ولا يطمح - وهو التوصيف الأهم في رأيي- إلى إرضاء نظامٍ اجتماعيٍّ قبيح، يُصمِّم لأفراده أطرًا قاسية من فولاذ، ويدفع بهم إلى قوالب سابقة التجهيز، ويسجنهم فيها طوعًا، يتوهمون أنهم يختارونها بينما هم مُسيرون إليها.

***

تابعت فيلمًا أمريكيًا منذ شهر أو أكثر بقليل، يكتشف بطله بمَحض الصدفة وجود مَجموعة أشخاصٍ تتحكم في البشر الآخرين، تدير أفعالهم وترتب تصرفاتهم، ويبقى أعضاؤها في عالم موازٍ، لا يظهرون بوضوح، لكنهم يرسمون خطّة حياة كل مواطن، ويقودونه إلى مسارات مُحدَّدة عبر تتبُّع أدقّ التفاصيل الخاصة به؛ هناك مَن يركب معه الحافلة صباحًا، ومَن يصطدم به ليُسقِط قهوته على الملابس فيتعطَّل عن هدفه، ومَن يسير وراءه ويتنصت على مكالماته ويعيد تشكيل الظروف لتوائم الخطة المرسومة. كل همسة ولمسة يجب أن تُوَظَّف مِن أجل تطبيق الخُطّة بحذافيرها، صورة من صور الأخ الأكبر التقليديّ، الذي يعكس وجهًا أصيلًا مِن وجوه السُلطة. يغدو كشف البطل لوجود هذه المجموعة، إيذانًا ببدء معركة خفية بين إرادته وإرادتها.

ما بين رمزية الفيلم وإسقاطاته، وما بين النظام الاجتماعيّ وآليات السيطرة والضبط التي تتخلق ذاتيًا مِن رحمه، تبقى مساحة -وإن لاحت صغيرة- للخَرق والتمرد. يتمكن البطلُ بإصراره مِن تعديل المسار المُعَد له سلفًا، يختار ما لا يعجب مُراقبوه، ويتشبث باختياره، ويرغمهم على الاعتراف به.

***

البطلُ في هذا الفيلم إنسانٌ ”طبيعيّ“ وفقًا لبعض التعريفات التي توالت في محادثتنا الطويلة؛ هو أعمق التصاقًا برغباته، أكثر انتصارًا لإرادته، وأقل انصياعًا للروابط الخفيّة التي تشده إلى ما يريد المُجتمَع، وما يفرض. البطلُ ”الطبيعيّ“ يصبح مع تصاعد المَعركة، أقل نزوعًا لإرضاء رؤسائه وأصدقائه وأقربائه، وأميل إلى إرضاء نفسِه. يصبح أكثر قدرةً على خَرق النظام الاجتماعيّ والتَحرر منه.

***

ترى مَن هو الإنسان الطبيعي؛ لا في الوجود المُطلَق، بل في لحظتنا هذه؟
قيل إنه مَن يتأقلم على الحال، ويطيب له المَقام أيًا كان، مَن يوطِّن نفسه على الرضاء بأقل القليل المُتاح، ويُدِّرب مشاعره على الحياد مهما جرى. قيل مِن زاوية أخرى؛ إنه مَن يرفض الأوضاع التي تؤرقه رغم احتمالات الإيذاء، مَن يفور ويمور ولا يهدأ له بال، إلى أن يُعيد تشكيلَ المسار، وتقويمَ الاعوجاج. قيل إن الإنسان الطبيعيّ؛ هو ببساطة مَن لم يفقد عقلَه بعد، وفي تعريف عبثيٍّ مُضاد؛ هو مَن فقد بالضرورة عقله واتزانه، مُستجيبًا لحال التشوُّش العام.

***

تحيَّرت في العثور على ردٍّ مُناسب؛ ففي لحظتنا هذه يصعب تعيين ”الطبيعيّ“ وتعريفه. الطبيعيّ؛ إنسانًا كان أو سياقًا، لا يبدو الآن طبيعيًا بالمرة، الأجواءُ في مُجمَلها غرائبية صادمة، و“غير الطبيعيّ“ يبدو مَنطقيًا وعاديًا ومَقبولًا. همهَمت في جوفي وقد تعطّل مني الصوتُ: الخللُ ظاهرٌ مَحسوس، في الأمر ما لا يستقيم.. في الأمر ما يسوء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved