مصر والمستقبل المأمول

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 12 يناير 2018 - 11:35 ص بتوقيت القاهرة

من المعروف تاريخيا أن الإنسان اجتاز فى تاريخه حقبا متعددة ومتنوعة متغيرة ومتطورة وكان صراعه فى كل حقبة هو صراع وجود، ففى الحياة البدائية الإنسانية صارع الإنسان مع قوى الطبيعة بيدين خاويتين، وكان يواجه العواصف والفيضانات والزلازل معتقدا أن وراء كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية قوى حية غير مرئية تحاربه وهدفها قتله؛ فكان يحاول أن يختفى فى الكهوف الجبلية أو يهرب من الفيضانات بارتقاء التلال والجبال وبدأ يصنع لنفسه أدوات للدفاع عن نفسه من الصخور حتى اكتشف النار وكان هذا الاكتشاف بمثابة نقلة حضارية ضخمة فى حياته فاستخدمها فى طهو الطعام وإنارة الليل والدفاع عن نفسه ضد الحيوانات المفترسة التى كانت تخشاه عندما يشرع فى وجهها شعلة نار، وفكر فى أن هذه القوى الطبيعية وراءها قوى تتحكم فيها، وبدأ يقدم عبادته وذبائحه لهذه القوى التى يعتقد أنها خلف الظواهر الطبيعية، ومر الإنسان بحقبة الخرافة ثم الأساطير التى تتحدث عن الآلهة ثم حقبة الشعراء فالفلاسفة، وأخيرا حقبة الأديان والتى أعقبتها حقبة العلم، ولم ينتقل الإنسان من حقبة إلى أخرى إلا بفكرة واحدة تسيطر عليه هى مصير أولاده والأجيال القادمة وحرص كل جيل على أن يترك بعده ما يكون قد جعل الحياة أسهل بالنسبة للأجيال التالية له.
من هنا جاء مفهوم «المستقبل» وعندما فكر الإنسان فى المستقبل اعتقد أنه «قدر محتوم» لا يستطيع أن يفعل معه شيئا؛ فقد خططت له قوى أعلى منه تراه ولا يراها تتحكم فيه ولا يتحكم فيها ولا يستطيع أن ينتصر عليها، ومع مرور الأزمان والحقب تغيرت نظرته هذه خاصة مع عصر العلم والذى اخترع من خلاله أدوات ساعدته على إنجاز أعماله أكثر سرعة وأكثر إتقانا، وكانت الأديان قد تحدثت فى هذا الشأن فى خطين متوازيين: خط أن الله هو الذى يرسم طريق الإنسان من قبل أن يولد وحتى يموت، وفى الوقت نفسه أن الإنسان يستطيع أن يصنع مصيره الأبدى إذا اختار أن يعيش بحسب فكر الله ويتوب عن ذنوبه.. وهاتان الفكرتان تبدوان متناقضتين لكنهما أعطتا للإنسان القدرة على الاختيار وإن كان الله له علم مسبق بهذه الخطوة بالنسبة لكل إنسان على الأرض، وأيضا هذه الفكرة جعلت الكثير من البشر يستسلمون لفكرة أن حتى ما يرتكبه من شر وانحراف هو مكتوب عليه وهو من الله مباشرة، بينما اعتبر البعض من العلماء أن الله لا يقدر بالانحراف والشر ولا علاقة له بها، وهذا لا ينقص من سلطان الله بل العكس هو الصحيح.
***
عندما أراد أحد الفلاسفة ــ ويدعى توما الإكوينى فى القرن الحادى عشر ــ أن يثبت أن الإنسان مسير وليس مخيرا قال إن الإنسان لا يستطيع أن يجرى كالحصان أو يطير كالعصفور أو يعيش تحت الماء، وبالطبع كل هذه الأدلة سقطت مع اختراع السيارة والطيارة والغواصة.. وهكذا من خلال هذا الصراع الفكرى وتدفق الاختراعات والاكتشافات بدأت دراسات المستقبل عند الإنسان، فقد انتقل من الاستسلام لقوى الطبيعة والقدر وأنه ليس لديه خيار إلى نظرة ثاقبة للمستقبل وأن الحياة يمكن أن تتجدد بفعل الإنسان وعقله وعبقريته، وأن الإنسان يستطيع أن يصنع مستقبله كفرد من خلال قدراته العقلية واختياراته الصحيحة وكذلك الأمم والشعوب، والدليل على ذلك هو الفارق الواضح بين الأفراد وبعضهم البعض فى العلم والثروات والإبداع وأيضا بين الشعوب التى حققت حريتها وديمقراطيتها وقدرتها على الإبداع والمساواة بين مواطنيها والرفاهية وبين شعوب أخرى مازالت ترزح تحت الأمية والفقر والمرض وديكتاتورية الحكام وعدم المساواة بين الرجل والمرأة وبين الأقلية والأكثرية... إلخ، وهكذا لم يعد المستقبل مجرد محاولة لقبول الفقر والمرض والضعف والتخلف بأى إدعاء كان بل أصبح تعريف المستقبل على أنه مسافة زمنية يمكن للإنسان أن يتحكم فيها بوعى كامل، وأن يبذل فكره وجهده ليصنعه على أفضل صورة ممكنة. لقد بدأ الإنسان فى صنع مستقبله بالفلسفة والخيال وهكذا وضع أفلاطون كتاب المدينة الفاضلة وعبر فيه عما يجب أن يكون عليه المستقبل فى هذه المدينة التى لا يمكن أن تكون فاضلة إلا بتأسيسها على فكرة العدل والعدالة فالعدل هو القيمة المطلقة «الله العدل» «أى القيمة العليا الكاملة» أما العدالة فهى تطبيق هذه القيمة العليا فى كل المواقف التى يحتاج فيها الإنسان لقيمة العدل، أما فى العصر الحديث فقد ظهرت روايات الخيال العلمى والتى تحولت إلى أفلام مثل «آلة الزمن»، ثم ظهر بعد ذلك مصطلح علم أو علوم المستقبل، والذى يعتمد على ما أطلق عليه «تمييز علامات الأزمنة» وتمييز علامات الأزمنة يعنى استشراف المستقبل من خلال عقولنا المميزة للأحداث وبالتالى بعد تحليلنا للأحداث الحاضرة يمكننا التنبؤ بالمستقبل وهنا يمكن وضع نوعية وحجم التغيرات التى يجب أن تحدث لخلق أو تطور أى مجتمع جديد.
***
لقد صارت علوم المستقبل من الأهمية بمكان فى العالم الغربى ولا شك أن مصر والدول العربية تأثرت بهذا التوجه العالمى وبدأت من نحو مائة عام بعض الإرهاصات لتبنى التفكير العلمى فى تناول الأمور المستقبلية إلا أن هذه الدراسات لم تكن من أولويات الدولة بشكل عام لكن بدأ القطاع الخاص ( جمعيات أهلية ــ دور صحف ــ مراكز أبحاث... إلخ ) الاهتمام بمثل هذه النوعية من الدراسات ومع ذلك لم يهتم الحكام والرؤساء بها. هذا فى نفس الوقت الذى كانت هذه المؤسسات لا تقوم بهذا العمل بشكل محترف لكن كلما استطاعت أن تصل لتمويل من الخارج تقوم بعمل بعض الدراسات ثم تتوقف انتظارا لتمويل آخر... إلخ، وهكذا وصلنا إلى نتيجة فى منتهى الغرابة أن غالبية الدول العربية لا تأخذ بهذه الدراسات فى عملية اتخاذ القرار وقد حلل البعض ضعف هذا الاتجاه فى البلاد العربية بأنه غياب الرؤية المستقبلية فى بنية العقل العربى بالتزامن مع النظرة التشاؤمية للمستقبل وكذلك فإن الأمم العربية تقدس الماضى وتعتبره النموذج فتعيد إنتاجه لأنه العصر الذهبى أو الزمن الجميل وعندما تعود إلى هذا الزمن تجد الدواب وسيلة المواصلات ولا يوجد تليفزيون أو تليفون أو طائرات والحروب بالسيوف والحراب بل فى أى حوار تجد الرأى الأقدم هو الأقوى؛ فالاستشهاد بفقهاء القرن السابع والثامن أقوى كثيرا من فقهاء القرن العشرين أو الحادى والعشرين، كذلك غاب فن العمل الجماعى فالمصريون والعرب لا يتقنون هذا الفن هذا فضلا عن فقدان السماحة الفكرية أو ضعفها على الأقل وندرة تبادل المعرفة ورفض وكراهية التعدد وقبول الآخر المختلف أى ليس هناك ما يسمى «حق الاختلاف» فى الوطن العربى وفى العالم الثالث قاطبة كذلك قصور المعلومات الحديثة والدقيقة وبالطبع الانشغال بهموم الحاضر والعنف والإرهاب وقد كان لى تجربة خاصة مع آخر وزير تخطيط فى عهد مبارك حيث جمع خمسة عشر مفكرا وتحدث معنا عن مفهوم الرؤية والخطة...إلخ، ثم تحدث كل واحد منا عن تصوره للمستقبل وتم تسجيله ثم صنعوا من جميع الأراء خطة متكاملة وأرسلوها لنا بالبريد لكتابة تعليقاتنا عليها وقد فعلنا ونحن فى منتهى الحماس ووعدوا أنهم سيجمعوننا ثانية للوصول لخطة نهائية مستقبلية وها نحن فى الانتظار.
***
إن حاجتنا الحقيقية هى إعادة تشكيل العقل المصرى بحيث يكون عقلا منهجيا ذو تفكير نقدى لكل الموروثات لأنه من المستحيل إطلاق مشروع فكرى مستقبلى عقلانى لمصر مع بقاء حالة الأسر للماضى وهذا ينطبق على الفقه واللاهوت، يقول فرانسيس بيكون على عكس التوجه العربى والمصرى «إن الجيل الأصغر أو الأحدث أكثر نضجا من الجيل الأقدم ويدلل على ذلك بقوله إن الجيل الأكبر يعطى خبراته وتجاربه للجيل الأصغر والتى تسلمها من الأجيال السابقة عليه وأضاف خبرته الخاصة إليها ويمضى أما الجيل الأصغر فيتسلم هذه الخبرات المتراكمة ويضيف إليها خبراته هو بعد أن يمضى الجيل الأكبر وهكذا يصبح الأصغر هو الأنضج» متى يتعلم العرب ذلك؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved