إشكاليات العدالة الاجتماعية

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 12 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لا أظن أن هناك مطلبا تردد خلال العامين الماضيين دون توضيح المقصود منه أكثر من فكرة «العدالة الاجتماعية». برامج الأحزاب ووعود مرشحى الرئاسة والحوارات الفضائية والأرضية وتصريحات المسئولين تناولت الموضوع كثيرا ولكن دون ترجمته إلى سياسات محددة أو برامج قابلة للتطبيق أو حتى مفاهيم واضحة المعالم. لذلك ظلت العدالة الاجتماعية شعارا فضفاضا يتسع لكل شىء ويرضى كل الاذواق، وتم اختزالها فى موضوعين فقط: الحد الأدنى والأقصى للأجور والضريبة التصاعدية، وكأنهما كافيان لتحقيق هذا الهدف النبيل، بينما الحقيقة انهما لن يحققا الكثير فى غياب منظومة اكثر وضوحا واكتمالا للعدالة الاجتماعية، ولأولويات تطبيقها، ولمصادر تمويلها، وللسياسات المطلوبة لتحقيقها.

 

مفهوم العدالة الاجتماعية نفسه يحتمل التنويع. هناك عدالة فى توزيع الثروات، وعدالة فى تضييق الفجوة بين الدخول، وعدالة فى توزيع الفرص، وعدالة فى الحصول على الخدمات الاساسية وضمان الحد الأدنى من مكونات العيش الكريم. هذه مفاهيم مختلفة عن بعضها تماما وتنهض على أسس متباينة لطبيعة الاقتصاد ودور الدولة فى إدارته. ولذلك فإن التطور الطبيعى والمطلوب الآن للعمل السياسى والحزبى فى مصر يحتم الخروج من هذه الحالة المبهمة وقيام كل حزب وتيار بطرح مفهومه الواضح عن العدالة الاجتماعية وشرح كيف ينوى تحقيقها إذا ما وصل إلى الحكم أو شارك فيه، والا فستظل مجرد شعار براق لا أحد يختلف عليه ولكن لا نعرف ما المقصود منه بالضبط.

 

من جهة أخرى، فإن الحديث عن العدالة الاجتماعية يجب ان يستند إلى فهم وإدراك لطبيعة وقيود الموازنة العامة والا تحول الأمر إلى مباراة فى الوعود الشعبوية وفى خداع الناس. مصر تعانى من عجز غير مسبوق فى الموازنة وانخفاض فى معدلات التنمية والاستثمار، وبالتالى فنحن ننفق أكثر من أى وقت مضى بينما مواردنا منخفضة. وفوق ذلك فإن اكثر من ثلثى ما تنفقه الدولة سنويا يذهب إلى دعم الطاقة ورواتب الموظفين وسداد الدين العام الداخلى، مما يترك أقل من ثلث موازنة الدولة السنوية فقط للإنفاق على كل شىء آخر، المستشفيات والمدارس والطرق والسكك الحديدية ومحطات الكهرباء والصرف الصحى وغيرها. الوضع خطير والتعامل معه والتوعية به مسئوليتنا جميعا اليوم، حكومة ومعارضة. والبداية هى ان تتوقف الأحزاب والقوى السياسية عن وعد الناس بما لا يمكن تحقيقه، وأن تكون وعودها بزيادة الخدمات والمزايا والإنفاق العام مقترنة بتصور واضح عن كيفية توفير الموارد اللازمة لذلك. من هنا فإن أى تناول جاد لقضية العدالة الاجتماعية يجب أن يراعى أربعة اعتبارات:

 

الاعتبار الأول: هو أهمية زيادة موارد الدولة خاصة من الضرائب من أجل توفير الموارد اللازمة للإنفاق الاجتماعى المطلوب. وهنا يجب مراعاة ان مجرد زيادة سعر الضريبة بدون حساب ليست بالضرورة الحل السحرى. فالضريبة اذا تجاوزت حدا معينا معقولا ومتوازنا فإنها تصبح طاردة للاستثمار ومعطلة للتنمية الاقتصادية ودافعة للتهرب والاختباء فى الاقتصاد غير الرسمى. كذلك فإن الأهم من زيادة سعر الضريبة فى الحالة المصرية هو الحد من التهرب بحيث لا تكون قطاعات كاملة من النشاط الاقتصادى متمتعة بإعفاء واقعى، بينما كل من يتقاضون أجرا مثلا لا يملكون الفكاك من الضريبة. وأخيرا، يجب تذكر ان الضرائب بطبيعتها غير محايدة اجتماعيا ــ أى انها بالضرورة تؤثر فى بعض فئات المجتمع اكثر من غيرها ــ ولذلك وجب ان تكون اية زيادة فى الضريبة مستندة إلى فهم عميق لأثرها الاجتماعى.

 

الاعتبار الثانى: هو العمل على الحد من الإنفاق العام فيما لا ينفع المجتمع. ولكن لكى يكون الجهد مؤثرا، يجب ان يتجه إلى البنود الكبرى التى يمكن ان توفر عشرات المليارات وليس فقط لما يحقق شعبية إعلامية. كل رئيس وزراء فى تاريخ مصر المعاصر أصدر قرارات بالحد من النفقات الترفيهية وبوقف شراء السلع الكمالية وبضرورة شراء أقلام الرصاص المصنوعة محليا. كل هذا جميل ومطلوب ولكنه لم يحقق ولن يحقق العدالة الاجتماعية، لأن الوفر الحقيقى من الإنفاق العام لن يأتى الا من البنود الكبيرة، وفى الوقت الحالى فإن اكبرها على الإطلاق هو دعم الطاقة الذى يستهلك حوالى خمس موازنة مصر كلها ولا يستفيد الفقراء منه إلا بقدر محدود.

 

أما الاعتبار الثالث: فهو ضرورة نقل بعض بنود الإنفاق العام من خانة إلى أخرى، بما يعبر عن الانحياز للطبقات الأكثر احتياجا. يمكننا إصلاح مزلقانات القطارات التى تتسبب فى حوادث مروعة لو أجلنا إصلاح طريق مصر - الاسكندرية الصحراوى، ويمكننا زيادة الإنفاق على المستشفيات الحكومية لو وفرنا من بند العلاج بالخارج، ويمكننا إنشاء نظام حديث للضمان الاجتماعى والدعم النقدى للفقراء لو بيعت أنبوبة البوتاجاز بسعر اعلى من سعرها الحالى الذى يستفيد منه تجار السوق السوداء، وهكذا فإن الأمثلة كثيرة على بدائل متاحة لاستخدام نفس الموارد فيما يكون عائده الاجتماعى اكثر اتساعا وعمقا.

 

وأخيرا، فإن الاعتبار الرابع هو ان تحقيق العدالة الاجتماعية غير ممكن وغير منطقى فى غياب مفهوم أوسع للعدالة بشكل عام. العدالة الاجتماعية بالمفهوم التقليدى والضيق لتوزيع الموارد والثروات لا معنى لها لو لم تكن هناك مساواة حقيقية بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، بين الرجل والمرأة، وبين المسلم والمسيحى، وبين ساكن المدينة والريف، لأنه فى غياب هذا المفهوم الواسع والمتأصل فى المجتمع للعدالة بشكل عام ولمبدأ المساواة بين المواطنين فإن العدالة الاجتماعية لن تتحقق.

 

العدالة الاجتماعية مطلب ملح وضرورى، ولكن الاستمرار فى مسار الوعود الفارغة ليس مفيدا، وتحقيقها يستدعى صراحة فى العرض، وإتاحة كاملة للمعلومات، وتوافقا سياسيا فى المجتمع، ووعيا من الجمهور. والأهم من كل هذا، انه يتطلب ثقة كافية بين الشعب وحكومته لكى يقتنع الناس بأن ما يتم توفيره فى أحد البنود سوف يرجع اليهم فى مجال اخر. بغير ذلك فسوف تكون فكرة العدالة الاجتماعية مثلها مثل الأخلاق الحميدة والروح الرياضية، شعارا انتخابيا وقيمة إنسانية يتفق عليها الجميع ولكن لا علاقة لها بالواقع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved