نقاش لا إجابات نهائية به

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 12 فبراير 2016 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

بعيدا عن كثير الانحطاط والافتئات الذى حوته مقالات صحفيى «الأذرع الأمنية» الذين «أمروا» بالتعقيب على المقال الذى كتبته بالاشتراك مع مايكل ماكفول ونشرته فى ٢٩ يناير ٢٠١٦ صحيفة الواشنطن بوست تحت عنوان «كيف يمكن إنقاذ مصر؟»، جاء مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد فى عدد ٧ فبراير ٢٠١٦ لصحيفة المصرى اليوم والمعنون «مبادرة د. عمرو حمزاوى» طارحا لملاحظات حول الحالة المصرية تستحق النقاش ولأفكار بشأن قضايا الحكم والأمن والحقوق والحريات يجدى الاشتباك معها.

ولست فى تناولى لمقال د. سعيد الذى ستحمله صياغات وعبارات النقاط التالية براغب فى التورط فى الطريقة الاستعلائية البائسة «للرد على فلان» التى تسفه من الرأى الآخر. ولست أيضا بباحث عن وأد نقاش يكاد يبدأ بين مختلفين فى الرأى بشأن قضايا مصيرية للمواطن وللمجتمع وللدولة فى مصر. وجيد حتما ومفيد أن يتواصل مثل هذا النقاش ويتعمق نزوع المشاركين به باتجاه قبول التنوع واحترام الاختلاف فى الرأى، وكذلك إجلاء حقائق الحالة المصرية دون تجميل أو مواربة.

***

أولا، وصف د. سعيد الأفكار التى ضمتها كلمات مقال «كيف يمكن إنقاذ مصر؟» بالمبادرة التى تأتى فى إطار سيل من المبادرات الباحثة عن إخراج مصر من «أحوال» لا تعجب الكثير من مواطنيها. والحقيقة هى إننى، ومع كامل احترامى لمن يعلنون هذه الأيام عن مبادرات دون أن يكون لديهم آليات محددة لتفعيلها أو سبل واضحة للتواصل مع الأطراف المعنية بها، لم أر أن أفكار المقال تستحق أن يطلق عليها «مبادرة» وإلا لكنت وصفتها كذلك. فمن جانب، لا يملك أكاديمى لا دور سياسى له اليوم، وهذه هى وضعيتى، آليات لتفعيل الأفكار التى يطرحها على أرض الواقع. كما إننى لست على تواصل مع أطراف الصراع على السلطة فى مصر، إن باتجاه الحكم والمعارضة أو باتجاه المجموعات التى اصطلح على تسميتها «القوى والأحزاب المدنية» وشاركت منذ صيف ٢٠١٣ فى «النظام الجديد» الذى تأسس على أنقاض الإجراءات الديمقراطية وبررت طويلا للمظالم والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والحريات أو تعاملت معها بمعايير مزدوجة.

من جانب آخر، لدى قناعة سجلتها مرارا خلال العامين ونصف الماضيين بكون السياسة أميتت فى بلادنا بفعل الطبيعة السلطوية للحكم وسطوة الأمنى على إدارة الشأن العام. ومن ثم يستحيل تطوير أفكار لحل الأزمات المستحكمة وإخراج البلاد من أحوالها التى لا تعجبنا إلى مبادرات فعالة وجادة ما لم تتوافق إرادة «النظام الجديد» على إيقاف المظالم والانتهاكات وإحياء المجال السياسى بعد موات. وتلك أراها مسئولية منفردة لمراكز النفوذ وصنع القرار داخل النظام الجديد، تحديدا المكون العسكرى الأمنى، التى اندفعت منذ صيف ٢٠١٣ لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء فى مصر.

ثانيا، أشار د. سعيد فى الأسطر الأولى من مقاله، إلى ما يفيد الاعتراض على عنصرى «الصحبة ومكان النشر» الذين تخيرتهما لمقالى، وعن «الصحبة» كتب أن مايكل ماكفول قدم بكونه من إدارة باراك أوباما. والحقيقة هى أن «كيف يمكن إنقاذ مصر؟»، والمقال متاح على موقع الواشنطن بوست، يقدم د. ماكفول كأكاديمى متخصص فى العلاقات الدولية بجامعة ستانفورد عمل سابقا فى مجلس الأمن القومى التابع للرئاسة الأمريكية فى فترة الإدارة الأولى لأوباما، وشغل سابقا منصب السفير الأمريكى لدى الاتحاد الروسى. ويعلم د. سعيد أن انتقال الأكاديميين الأمريكيين المتخصصين فى السياسة والعلاقات الدولية بين الجامعات ومراكز الأبحاث وبين العمل التنفيذى فى دوائر الحكم يمثل ظاهرة اعتيادية فى الولايات المتحدة. العمل المشترك مع د. ماكفول فى مركز الديمقراطية والتنمية وحكم القانون بجامعة ستانفورد هو الذى شجع بمفرده على «الصحبة» والكتابة المشتركة. أما صراخ صحفيى «الأذرع الأمنية» عن دور «لإدارة أوباما» فى كتابة المقال وعن أدوار «لأجهزة استخباراتية» فليس سوى هراء هؤلاء المعتاد وحديثهم المتهافت عن «المؤامرات والأجندات» وتشويههم الظالم لكل صوت مصرى معارض. وأربأ بد. سعيد ــ وهو الباحث القدير ــ أن يكون عرضه المختزل لهوية «صحبتى» فى المقال اقترابا من مثل هذه الترهات.

تماما كما لم أفهم الإشارة السلبية إلى صحيفة الواشنطن بوست التى تنشر بانتظام مقالات متنوعة التوجهات عن الحالة المصرية. ولم يكن من قبيل «المصادفة التحريرية» بها أن نشر فى نفس يوم نشر «كيف يمكن إنقاذ مصر؟» مقال للكاتب الأمريكى ديفيد إغناتيوس تحت عنوان «كلينتون كانت محقة فى رؤيتها لمصر» ينتقد به إدارة أوباما لسطحية تعاملها مع مصر، ودعمها الساذج للديمقراطية على حساب الأمن والاستقرار «علما باننى لا أرى أن إدارة أوباما دعمت الديمقراطية فى مصر بجدية تستحق أن تذكر». وقد «احتفت» صحيفة المصرى اليوم بمقال إغناتيوس ونشرته مترجما إلى اللغة العربية، وكذلك شاركت فى الاحتفاء وسائل إعلام مصرية كثيرة وظفت المقال كدليل على «عودة وعى» باتت قريبة للسياسة الأمريكية بشأن مصر بعد أن تخلصت من «أوهام الديمقراطية» وقضايا «الحقوق والحريات» التى لا تغنى ولا تسمن من جوع.

***

ثالثا، فى متن مقال د. سعيد أكثر من ملاحظة وفكرة واجبة النقاش. منها أن طرح أفكار لإخراج من مصر من أحوالها التى لا تعجبنا ينبغى أن لا يقتصر على الدفع بمطالبات أحادية باتجاه الحكم بينما تجلس المعارضة على مقاعد المتفرجين إلى أن «تنصلح» الأحوال.

والحقيقة هى إننى أجد نفسى متفقا مع جوهر هذه الملاحظة المتمثل فى المسئولية المشتركة للحكم والمعارضة، شريطة أن يسبق تقاسم المسئوليات اضطلاع الحكم بمسئوليته المنفردة فى إيقاف المظالم والانتهاكات التى يرتكبها منذ صيف ٢٠١٣ ويعيد إحياء السياسة التى أماتها. وقد فصلت مع د. ماكفول فى مقال «كيف يمكن إنقاذ مصر؟» فى مضامين مسئولية الحكم المنفردة، واقترحنا كإجراءات ١» الإفراج عن المسلوبة حريتهم لأسباب سياسية أو بسبب تطبيق قوانين صريحة السلطوية يتعين تغييرها كقانون التظاهر، ٢» اعتماد منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية تنتصر لسيادة القانون وتجبر الضرر عن الضحايا وتحاسب اليوم وغدا المتورطين فى المظالم والانتهاكات وتنهى قدرتهم على الإفلات من العقاب، ٣» البحث فى سبل إجراء انتخابات برلمانية مبكرة لا تديرها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وتجردها بالتبعية من كل العناصر الأصيلة فى المشاهد الانتخابية الجادة مثل المنافسة الحرة وحق المواطن فى الاختيار الحر بين بدائل «أحزاب وأفراد» دون خوف.

ولا يخلط إجراء الإفراج عن المسلوبة حريتهم سياسيا وبفعل قوانين سلطوية بينهم، وأعدادهم تتراوح تقديراتها من ٤٠ إلى ٥٠ ألف مصرى ومصرية، وبين القابعين وراء الأسوار لتورطهم فى أعمال إرهاب أو عنف. وتعنى منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية جبر الضرر عن ضحايا التعذيب والاختفاء القسرى والمعاملة غير الإنسانية، وتعويض أسر ضحايا العنف الرسمى فى فض الاعتصامات وفى ممارسات القتل خارج القانون، والمحاسبة القانونية المنصفة والناجزة للمتورطين فى المظالم الانتهاكات دون تمييز على أساس المنصب الرسمى أو الحظوظ من السلطة والنفوذ. غير أن منظومة كهذه للعدالة الانتقالية تنهض أيضا على محاسبة منصفة وناجزة للمتورطين فى الإرهاب والعنف الأهلى تحريضا وممارسة دون مساومة أو تأجيل. ولا شك لدى فى كون د. سعيد يدرك إدانتى الشاملة لكافة جرائم الإرهاب والعنف، ورفضى لجميع المحاولات الفاسدة لتبريرها، وقناعتى بحتمية تحالف المواطن والمجتمع والدولة فى مواجهة للإرهاب والعنف تستهدف اقتلاعهما من مصر بمزيج من الأدوات الأمنية والأدوات المجتمعية والتنموية والسياسية وفى إطار احترام ضمانات حقوق وحريات المواطن والامتناع عن ممارسات العقاب الجماعى الكارثية. ويستحيل إنكار التشويه الذى ألحقته سيطرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على مشهد الانتخابات البرلمانية ٢٠١٥ بمجلس النواب الذى لا يعبر عن الأوزان الفعلية «للقوى السياسية» فى مصر، كما يرى د. سعيد، بل يترجم سيطرة أجهزة الأخ الكبير وطبيعة التحالفات داخل تركيبة الحكم التى يحضر بها المكون العسكرى الأمنى والنخب الاقتصادية والمالية والجهاز الإدارى الدولة وبعض المصالح الحزبية الموالية للحكم. على هذا النحو صنع المجلس التشريعى الحالى، وحتما ستتغير هويته وطبيعته ما أن نتمكن من إبعاد الأجهزة عن السيطرة على الانتخابات، وننظم دور المال السياسى، ونقر قواعد عادلة وشفافة للمنافسة بين الأحزاب والأفراد، وتجرى من ثم عمليات انتخابية حقيقية لا تعزف أغلبية الناس عن المشاركة بها.

وحال تنفيذ هذه الإجراءات، والتنفيذ مشروط باعتراف الحكم «بأحوال البلاد التى لا تعجب الكثيرين» وبتبلور إرادة للتغيير والابتعاد عن حافة الهاوية التى نقف عليها اليوم مواطنا ومجتمعا ودولة، تنتهى المسئولية المنفردة للحكم وتبدأ مراحل متعاقبة من تقاسم المسئوليات بين الحكم والمعارضة، بين المؤسسات النظامية والمؤسسات المدنية داخل بناء الدولة، بين الدولة والمجتمع المدنى، بين الفاعلين السياسيين والفاعلين فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية بالغة الأهمية. هنا، دون مساومة أو مواربة أو رمادية، لا ينبغى تمكين قوى وحركات تخلط بين الدين والدولة أو تنتقص من مواطنة الحقوق المتساوية بسبب الهوية الدينية والمذهبية أو تروج لخطاب كراهية ضد المختلفين معها أو تتورط فى العنف اللفظى والمادى من المشاركة فى حياة سياسية يراد لها التنوع والتسامح والسلمية. لذلك، لم تكن خلفية الإجراء المقترح فى مقال الواشنطن بوست بشأن تمكين كل الأطراف الملتزمة بالفصل بين الدين والدولة وبنبذ العنف من المشاركة فى السياسة هى التمهيد لما أسماه د. سعيد «التصالح مع الإخوان»، بل كانت التأكيد على أن تفعيل مسئولية القوى والحركات الراغبة فى المشاركة السياسية فى هذه السياقات سيغير جذريا من هوية وطبيعة الإخوان والسلفيين والجماعات الدينية الأخرى ومن ثم لن يبقى أبدا على وضعيتها الراهنة.

***

هنا، أيضا دون مساومة، يتعين طرح قضية الصياغة الديمقراطية للعلاقات العسكريةــ المدنية، وبصورة أشمل ملفات العلاقات بين المؤسسات النظامية والمدنية داخل بنية الدولة المصرية. وكذلك لا بديل عن إعادة النظر فى العلاقة بين نظام الحكم والدولة التى استقرت منذ ١٩٥٢ على استتباع الأول للثانية، وفى العلاقة بين الدولة والمجتمع المدنى التى استقرت على سلطوية تفرض الدولة بمقتضاها إرادتها على فعاليات المجتمع الحرة والطوعية، وفى العلاقة بين الدولة والمواطن التى استقرت على إخضاع المواطن قمعا وتعقبا وتهديدا وتزييفا للوعى ووصاية ولم تكن حصيلتها غير إفقاد جمهورية يوليو ١٩٥٢ ــ وهى لم تزل حية ترزق ــ لشرعية القبول الحر من جانب المواطن والرضاء الطوعى من قبل الشعب.

هنا دولة العدل التى أتمناها لبلادى، ومجتمع الحرية الذى طال اتوق إليه، والمواطن الفرد مصون الكرامة والحقوق والحريات القادر على صناعة التقدم لمصر.

أتمنى أن يتواصل النقاش. لا حقائق مطلقة ولا إجابات نهائية تحملها الأسطر السابقة، فقط أفكار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved