صندوق النقد.. وما الجديد!!

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 12 فبراير 2024 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

سألتنى الإعلامية الشهيرة الأستاذة لميس الحديدى فى برنامجها المعروف عما عساه يكون مختلفا هذه المرة من الاتفاق مع صندوق النقد الدولى عن كل الاتفاقات السابقة، وأشهرها وأعنفها أثرا ذلك الذى وقع فى نهاية عام 2016 وحصلت مصر بموجبه على تيسير نقدى قيمته 12 مليار دولار.
السؤال فى غاية الأهمية لأنه ينكأ جرحا قديما غائرا فى جسد الاقتصاد المصرى، الذى كثيرا ما يبحث القائمون عليه عن مسكنات للآلام ومخففات للأعراض دونما أن يتجرد أحدهم للتصدى بشكل حاسم وفعال للأمراض المزمنة المتمثلة فى العجزين الداخلى والخارجى، وانتشار الفقر والبطالة، وزيادة الاعتماد على التمويل بالدين، وما يترتب على ذلك كله من انكشاف كبير للخارج.
البرامج الإصلاحية التى «يعتمدها» الصندوق صارت برامج «وطنية» لا يزعم أحد الحكوميين أنها مفروضة علينا من الخارج. لكن تلك البرامج تتبع صيغة روتينية، قوامها التقشف المؤسس على خفض وترشيد الدعم الحكومى، تحرير أسعار منتجات الطاقة، التشديد النقدى، تحريك سعر صرف العملة الوطنية.. وكلها إصلاحات نقدية ومالية ضرورية ومفضلة عند اقتصاديى الصندوق المأخوذين بالأجل القصير!، لكنها لا يمكن أن تثمر فى الأجل الطويل أو حتى المتوسط إن لم يلازمها إصلاحات هيكلية، تقوم على تمكين القطاع الخاص وعدم مزاحمته فى الأنشطة التى يعمل فيها بصورة أكفأ من الأذرع المملوكة للدولة، تهيئة المناخ الجاذب للاستثمار تشريعيا وتشغيليا، إزالة العقبات أمام الاستثمار الوطنى والأجنبى، الاهتمام بقطاعات قائدة للنشاط الاقتصادى (مثل الصناعات التحويلية ذات التشابكات الأفقية والرأسية المتعددة) بغرض الإحلال محل الواردات والتوجه للتصدير، التوسع الأفقى والرأسى فى الرقعة الزراعية لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتى فى السلع الأساسية، الإصلاح المؤسسى وتحسين وضع مصر فى مؤشر مدركات الفساد الذى نقبع فى الثلث الأخير منه.. إلى غير ذلك من إصلاحات مهمة تعمل على تغيير الواقع الاقتصادى بشكل هيكلى مستدام، حتى ولو لم يكن مردودها العاجل واضحا اليوم.
تأخر الإثمار لهذا النوع من الإصلاحات الهيكلية التى تعالج المرض وليس العرض يقلل من شعبيتها بين بعض المسئولين! الوطن أكبر وأعظم من الإنجازات المحدودة المباشرة، وهو أجل من أن ينحصر فى قالب ما أحرزه الأفراد من نجاح، ذلك لأن التاريخ لن يسجل فى تلك المراحل العصيبة للأوطان سوى الإخفاق للجميع، ولن يرحم من كان منهم نابغة فى فنه وماهرا فى صناعته، فكلنا مسئولون عن مستقبل وطننا. هنا يلزمنا الإنصاف أن نشير إلى سياسة «التثبيت والتكيف الهيكلى» التى اتبعتها مصر فى أعقاب اتفاق سابق مع الصندوق فى تسعينيات القرن الماضى، باعتبارها كانت جيدة إلى حد كبير، ولكن سرعان ما التهمت إنجازاتها الجزئية إخفاقات أكبر على صعيدى توزيع ثمار النمو، واستدامته باستراتيجية متصلة وممتدة.
●●●
ترحيل الأزمات للإدارات المتعاقبة هو داء عضال تعانى منه مصر بشكل عميق فى العصر الحديث، وهو الذى ألمح إليه السيد رئيس الوزراء فى لقاء مذاع منذ أسابيع قليلة، وسواء كان موفقا فى اختيار المثال الذى ذكره للتدليل على ذلك أم جانبه التوفيق، فإن الفكرة ذاتها تبقى صحيحة راسخة فى ضمائر حائزى المناصب، الذين لا ترشد قراراتهم الرقابة البرلمانية والشعبية المناسبة. إذن السؤال الذى لم تتم الإجابة عليه بعد: ما الجديد فى الاتفاق المقبل مع الصندوق، والذى تبدو مؤشرات إتمامه جيدة؟ أهم ما قد يميز الاتفاق الجديد، أن القيادة السياسية للبلاد تدرك اليوم مخاطر الركون إلى الوصفة التقليدية للإصلاحات المالية والنقدية الجزئية، وتدعو إلى حوار مجتمعى جاد (متخصص بالطبع) لوضع خارطة طريق طويلة الأمد، تتخطى أى مكاسب وقتية تحسب فى سجل وزير أو حكومة ثم سرعان ما تتفجر خطاياها الدفينة فى وجه حكومة تالية ربما كان أداؤها أفضل من سابقتها، لكن السببية (لعن الله تلبيسها) تلقى باللائمة كلها على المسئول الذى تنكشف الأزمة فى ولايته لا على من نشأت ودفنت وتمددت فى عهده.
لكن الحوار المجتمعى لن يأتى بجديد إن لم يؤسس على دعامة راسخة، وأن تفعل مستخلصاته النابتة فى ورش العمل الضيقة المغلقة بعقول وأيادٍ ماهرة، غير محملة بهاجس الدفاع عن ملفاتها أو إخفاء أخطائها السابقة. كذلك لن يختلف الاتفاق مع الصندوق عن سوابقه إن لم تكن البيئة الاقتصادية والمجتمعية مؤهلة لاستقبال تبعات الاتفاق وارتداداته التضخمية فى الأجل القصير، مع البناء على تلك القرارات لاجتذاب تدفقات رءوس الأموال فى مجالات الاستثمار المباشر ذات الأولوية، وفى استثمارات الحافظة بخلاف منتجات الدين (سندات وأذون خزانة) التى لم تجتذب فى أعقاب عام 2016 سوى النقود الساخنة، التى فر منها من مصر بين عشية وضحاها 20 مليار دولار بعد تفجر أزمتى كوفيد ــ 19 والحرب الروسية ــ الأوكرانية!
كذلك يجب أن تتكامل القرارات الاقتصادية بغية تحقيق التوازن العام. فإذا اتخذ السيد الرئيس قرارات هامة للتخفيف عن أعباء سابقة ولاحقة محتملة تثقل كاهل الطبقات المطحونة، فإن الأثر التضخمى لتلك القرارات يجب أن يتم احتواؤه سريعا بمزيد من التشديد النقدى (رفع أسعار الفائدة فى الأساس لأن تخفيض المعروض النقدى سيكون صعبا فى ظل الرغبة فى تمويل رفع الأجور والمعاشات). كذلك يمكن أن يتم هذا الاحتواء بالضبط المالى الذى تتوقف معه المشروعات الحكومية التى لم تبدأ بعد، وتتأجل طائفة من المشروعات الأخرى التى تعتمد على الاستيراد بشكل كبير، وتعمل كعنصر ضغط إضافى على كل من حركة القطاع الخاص وسعر صرف الجنيه المصرى فى الأسواق. وفى جميع الأحوال، فإن أى تخفيض «رسمى» جديد فى سعر الصرف لا يمكن أن يتم فى غيبة سيولة دولارية مناسبة، سيكون على صندوق النقد أن يوفر جانبا منها بموجب هذا الاتفاق (بين 3 و10 مليارات رهن التفاوض)، غير أن تلك التدفقات لن تكون كافية لسد الاحتياجات المتراكمة على باب المصارف، والتى يزيد حجمها كل يوم. من هنا كان لابد أن يواكب قرض الصندوق تدفقات استثمار أجنبى، تترقب تسعيرا أكثر عدالة لعملتها الصعبة فى السوق المصرية الرسمية من جهة، وضمانة الصندوق للأداء الاقتصادى المصرى خلال الفترة القادمة، من جهة أخرى.
فإذا انطلقت الإشارات الحكومية الجادة المؤيدة بالنتائج على الأرض (وليس بالتصريحات فقط)، لتثبت أن السحب الحكومى من تلك التدفقات المنتظرة سوف يتراجع لصالح النشاط الخاص المنتج، وأن فاتورة الاستيراد (من غير الأساسيات ومدخلات ومستلزمات الإنتاج) سوف تتراجع بدورها لتقلل الضغط على النقد الأجنبى، فإن احتياطى النقد الأجنبى سوف يتزايد، والسعار الذى يصيب السوق الموازية سوف يهدأ، خاصة ما يتعلق منه بأغراض المضاربة والدولرة وتخزين القيمة.
●●●
فى الختام، أعتقد أن نقطة الانطلاق الأولى لتمييز الاتفاق مع صندوق النقد الدولى وسائر شركاء التمويل فى الغرب والشرق، هو البناء على وجوه جديدة فى إدارة الملف الاقتصادى، بعد توجيه الشكر لكل من أحسن وأتقن عمله فى الإدارة الحالية. وإذا كان الرأى المعتدل ينأى بمسببات الأزمات عن الأفراد إلى كل ما هو مؤسسى، فإن هذا صحيح متى توافرت شروطه، ومتى كان البناء المؤسسى أقوى من الأفراد، ومتى تراجعت قدرة رئيس الهيئة أو المصلحة الحكومية على صياغة وتشكيل السياق التشريعى كما يحلو له، وهو ما عانت منه مصر فى أعقاب خطة الإصلاح الماضية، حينما أخفقت بيئة القطاعين الماليين المصرفى وغير المصرفى عن استقطاب رءوس الأموال الجادة والمستدامة، وكان ذلك نتيجة لإدارة القطاعين بأسلوب يقوم على استبعاد الخصوم، وتعديل اللوائح والقوانين باستمرار بما لا يتفق مع متطلبات الاستقرار التشريعى والمؤسسى... إلى غير ذلك من ممارسات كان محركها الأساس هو الاعتبارات الشخصية أو على الأقل تلك الاعتبارات التى لا نلمس فيها تحقيقا للصالح العام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved