أفكار طائرة من وحى المعضلات التنموية المصرية

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الثلاثاء 12 مارس 2024 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

يقولون «نظرة طائر محلّق» Bird’s Eye glance حين ينتقل المرء بين فكرة وأخرى بشكل خاطف، وكأنه يطير طيرانا خفيفا على وقع حفيف الأشجار.
هذا ما راودنى حين أخذت أقلبّ أفكارى التى قمت ببثّها عبر (الأوراق) وعبر (الشبكة ــ العنكبوتية) فى مساهمات متواضعة حول القضايا المعضلة التى تواجه مصرنا الحبيبة، فى جانب معين من حياتها المعاصرة، وهو الجانب الاقتصادى بالذات.
وأما البثّ فكانت مناسبته مشاركات متنوعة فى مناقشات ثرية جدا، أدارها القائمون على أمر «معهد التخطيط القومى» بالقاهرة، فى أنشطة ثقافية مختلفة يقال لها «فاعليات» مثل ما يسمى (سيمينار الثلاثاء) و(سيمينار شباب الباحثين) و(متابعات علمية للتقارير الدولية)، وهلمّ جرّا.
وقد جال فى خاطرى اليوم أن أُشرك معى القارئ الكريم والقارئة الكريمة فى بعض ما قمت بطرحه من «أفكار» فى موضوعات جدّ مختلفة، أعرضها على نحو أرجو أن يكون متسّقا. ويأتى الاتساق من كون المساهمات، كلها أو جلّها، تدور حول موضوع واحد، وربما وحيد، هو «التنمية الاقتصادية والاجتماعية» فى مصر.
ولأبدأ بأحدث، أو آخر، مساهمة فى «متابعة علمية» للتقرير الصادر عن (منظمة الصحة العالمية) عام 2023 حول عنوان طريف ولكنه بالغ الجدّة والجدية: (أخلاقيات وحوكمة الذكاء الاصطناعى فى مجال الصحة). وقد تحدث المتناقشون، ما شاء لهم الحديث، حول الأبعاد المختلفة للقضية المعروضة. ولكنّى أثرت أن أعرض مساهمتى من زاوية أخرى، مختلفة شيئا ما.
هذه الزاوية هى ما يتصل بحوكمة وأخلاق الصحة، فى أكثر دول العالم تقدما، الدول أعضاء «الاتحاد الأوروبى»، وفى مناسبة جليلة القدر، عظيمة الشأن، وبالغة التأثير (المأساوى) على البشرية المعذبة، وتلك هى الأزمة المرتبطة باندلاع ثم انتشار (الجائحة) المسماة (بالحروف اللاتينية الأولى للكلمات) كوفيد 19، وتعنى «المرض الفيروسى كورونا لعام 2019». فقد أشار ــ أو أفاض ــ المتحدث الرئيسى نقلا عن تقرير «منظمة الصحة العالمية»، المذكور آنفا، إلى أن دول الاتحاد الأوروبى، من أكثر بلدان العالم اهتمامًا بالصحة على الإجمال. وهذا ما لا ننكره، ولكنى أضفت ــ مختلفا ــ أن عناية دول أوروبا بصحة البشر قد واجهت امتحانا عسيرا، لا بل بالغ العُسْر، أثناء (الجائحة).
• • •
لقد كانت الجائحة حدثا كاشفا بصورة واضحة ودقيقة معا، للعيوب والثغرات المرتبطة بالمنظومة الاجتماعية والأخلاقية فى الغرب الأوروبى، ودع عنك البلدان والمناطق الأخرى الواقعة فى نطاق (الغرب) بالمدلول الثقافى والسياسى، ونقصد هنا على سبيل التخصيص: الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن تلك العيوب والثغرات الغربية ــ الأوروبية، ما تمثل مجسدا فى كل من إيطاليا وإسبانيا، وغيرهما، حين كانت تعطى الأولوية فى الفحص والعلاج لمن هم فى سن العمل، مع إهمال مزرٍ لفئة (كبار السن) ونزلاء المصحات و«دور المسنين». هذه نقطة أولى، ونقطة ثانية (كاشفة) تتعلق بالخلل الضارب فى بنية الاقتصادات الغربية، وهيكل الإنفاق العام والحكومى، من حيث عدم تكريس المخصصات المالية الضرورية لقطاع الرعاية الصحية الأولية، السابقة واللاحقة.
ومقابل ضآلة الإنفاق النسبى على الصحة العامة والرعاية الأولية، يلاحظ ارتفاع النصيب النسبى، البالغ ذرى عاليةً، لنفقات التسلح والاستعداد للحروب، وشن الحرب الفعلية هنا وهنالك، عدا عن التدخل العسكرى الغربى، خاصة الأمريكى، فى مناطق العالم (غير الغربى) فى القارات الثلاثة: إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتلك ما كانت تسمّى (فى زمن القطبية الثنائية الأمريكية ــ السوفيتية 1945 ــ 1990) بالعالم الثالث، أو ــ تأدبا ــ بلدان الجنوب أو (الدول النامية..!).
أما النقطة الثالثة الكاشفة، استقاءً من أزمة (كوفيد 19) فتتعلق بتركيز الدول المسماة بالمتقدمة (المتقدمةً اقتصاديا..! وليس بالضرورة اجتماعيا أو روحيا) وخاصة دول الغرب، على تخليق الدوائيات المشتقة من المعالجة الكيماوية، عوضا عن (التكنولوجيا الحيوية) القائمة على معالجة المواد المأخوذة من الطبيعة النباتية والحيوانية، لتصنيع الأدوية البشرية.. وهذا يتطلب قلبا للموازين السائدة فى بنية البحوث والتطوير R&D بحيث يعطى الوزن النسبى الملائم للحيويات، قبل الكيماويات.
• • •
هذا، وفى حلقة أخرى مما يسمى (سيمينار الثلاثاء) عن موضوع (مستقبل التعليم العالى) تقدمت بمداخلة موجزة كانت أبرز أفكارها تتلخص فى أن مناط التطور العلمى والتعليمى، كرافعة تنموية حقيقية، تتمثل فى ضرورة بناء ما يمكن أن نسمّيه (رأس المال الفكرى) وهو الذى يشرع فى التطور المتدرج والمنتظم حتى تخوم (الذكاء الاصطناعى).
هذا الذكاء الذى يقوم على جمع وتوظيف وتحليل (البيانات الضخمة) Big Data توصلا إلى تقديم مخرجات معرفية مفيدة للعملية التنموية، بما يتجاوز كما وكيفا، الجهد البشرى، وإن كان تأسس على محاكاته فى الأصل الأول.
ثم أنّى بعد ذلك، تفاعلا مع المتحدث الرئيسى فى الجلسة د. معتز خورشيد، تكلمت عن ضرورة بناء منظومة وطنية للابتكارات National System of innovation تجمع شتات الأفكار والتطبيقات الابتكارية، وتدعمها وتغذيها، وتدفع إلى تعميمها بحيث تكون الابتكارات بمثابة (سنّة حميدة) داخل النظام الاقتصادى ــ الاجتماعى. ويرتبط بذلك ارتباطا وثيقا إعطاء الأهمية الواجبة لتأسيس وحدات «البحث والتطوير» R&D فى المنشآت الإنتاجية، السلعية والخدمية، على امتداد البلاد، سواء منه البحث الأساسى Basic Research، أم البحث التطبيقى Applicative، وأعمال التطوير التجريبى، وبناء النماذج الأولية Prototypes، وكذا حثّ أعمال التصميم الأساسى والتطبيقى، والاستفادة القصوى من الأنشطة المرتبطة بالمعرفة التكنولوجية (سرّ الصنّعة Know how).
وختاما لهذه النقطة كان من الأهمية بمكان أن نولّى وجهنا شطر ما يمكن أن يسمّى (أنسنة العلم والتكنولوجيا) بحيث يكون الإنسان قبل الآلة، والمجتمع البشرى العارف قبل «الأوتوماتون»، وأن تكون الأولوية للارتقاء الروحى والفيزيقى للإنسان، قبل إعداد العدّة للحرب وللعسكرة كما هو جار اليوم على أيدى نظم الهيمنة الحالية لبعض الدول الكبرى. إذ ماذا يفيد القول المتكرر عن الثورة الصناعية الرابعة، أو الخامسة فيما يقال، أو ما بعدها، مادام العمل يجرى على قدم وساق عند قوى الهيمنة، من أجل إعداد العدة للحرب أو الحروب الكونية، ومن ثم إحراق البشر والحجر لا قدّر الله.
• • •
فى سيمينار آخر للثلاثاء، جرى تداول الرأى، وقدْح زناد الفكر، حول موضوع (الاستغلال الاقتصادى للموارد المعدنية). ولقد فكرت فى الأمر مليا من قبل، فكان من اجتهادنا، أنه لابد من تأسيس قاعدة للصناعة المعدنية والإلكترونية، وفق أحدث التطورات الرقمية، وأن ذلك يبدأ من بناء قاعدة (سيليكونية) تستخدم (الرمال البيضاء) لتصنيع شرائح السيليكون الدقيقة أو «الرقيقة»، التى تطبع عليها «الدوائر المتكاملة» IC. وفى هذه الدوائر يتم بناء الإلكترونيات الصغرى التى تكمن خلف كل سَكَنة وحركة فى الأجهزة والآلات والمعدات الحديثة و«أدوات الورش».
وانطلاقا مما ذكره المتحدث الرئيسى بالجلسة، المهندس أسامة كمال، فإن لدينا إذن المادة الخام للصناعة السيليكونية وهى الرمال البيضاء، ولكن ليس لدينا (تكنولوجيا) تصنيع الشرائح. وإنما يتم احتكار تكنولوجيات الشرائح لدى ثلّة صغيرة من البلدان (تايوان، الصين..) وإن استزراعها وتصنيعها فى مصر أمر تحفّه المصاعب حقّا، وتقف من دونه عقبات معرفية وتطبيقية جمّة، ولا يمكن تخطّيها إلا فى أجل طويل وبإمكانيات باذخة لا تتحملها المرحلة التنموية الحالية فى مصر العربية.
• • •
ضمْن ما يسمى (الصالون الثقافى لمعهد التخطيط القومى) عقدت حلقة بعنوان (التشريعات الاستثمارية: تحقيق للعدالة أم تعميق للفجوة الاجتماعية؟)، وكان لى حظ التحدث فيها أيضا، عن طريق ما يسمّى (زوم ZOOM) دائما، بالتركيز على جغرافيا وطبوغرافيا الاستثمار على الرقعة المساحية المصرية.
ولما أعدتُ التذكير بـ (قانون المناطق الاقتصادية الخاصة) ردّ المتحدث الرئيسى للحلقة د. زياد بهاء الدين، متطرقا إلى الجانب التشريعى للاستثمار. ولكنّى أكدت أهمية التوزيع المتكافئ للاستثمارات عبر مناطق وأقاليم البلاد التنموية، حفاظا على الاستقرار الاجتماعى المرتبط بالتغيير المبرمج للمنظومة الاقتصادية ــ الاجتماعية لصالح (الأغلبية الواسعة): 80% من السكان. وقد ذكّرتُ هنا بالأثر السلبى الذى تركه التركز السابق لأنشطة الاستثمار فى تونس الشقيقة قبل ثورتها لعام 2010/2011، حيث كان احتكار مرافق التنمية لدى مدن الشمال الساحلى، حافزا للانتفاض الثورى فى مناطق الوسط والجنوب التونسى، بدءا من حادثة الشاب/ محمد بوعزيزى، الذى أحرق نفسه احتجاجا على المَظلَمة التى تعرض لها، حتى جرى ما جرى. ثم انتقلت «العدوى» الثورية إلى مصر العربية خلال ثورة يناير 2011 العظيمة.
كما عرجتُ أخيرا، ولكن ليس آخرا، على أهمية التوازن الاستثمارى بين الريف والحضر، وبين المدن الكبرى والصغرى، مع إعطاء أولوية للأسر الصغيرة والفقيرة.
أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
الاقتباس
من الأهمية بمكان أن نولّى وجهنا شطر ما يمكن أن يسمّى (أنسنة العلم والتكنولوجيا) بحيث يكون الإنسان قبل الآلة، والمجتمع البشرى العارف قبل «الأوتوماتون»، وأن تكون الأولوية للارتقاء الروحى والفيزيقى للإنسان، قبل إعداد العدّة للحرب وللعسكرة كما هو جار اليوم على أيدى نظم الهيمنة الحالية لبعض الدول الكبرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved