الكرسى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 13 يونيو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مصر تكاد تحترق، لا قدر الله، بسبب كرسى.

 

●●●

 

كنت أعرف أن أقدم وأثمن كرسى يحتفظ به متحف فى العالم، هو كرسى الملكة حتشبسوت المحفوظ فى متحف المترو بوليتان فى مدينة نيويورك. شتان ما بين هذا الكرسى الفاخر والكرسى المتواضع نسبيا الذى جلس عليه آخر فرعون مصرى، ومع ذلك «يتقاتل» كثيرون للوصول إليه والجلوس عليه.

 

●●●

 

يقال إن الإنسان البدائى فى سعيه للابتعاد عن رطوبة الأرض وحشراتها انتقى حجرا ليجلس عليه، ثم تطور الحجر فصار «مصطبة» توارثتها الأجيال عبر القرون. يبدو أن هذا الإنسان البسيط، حين جلس على الحجر أو المصطبة، شعر هو وحريمه وأولاده، بأنه صار شخصا مهما واحتل مكانة أعلى كان غافلا عن استحقاقه لها. اكتشف أن جلوسه فوق هذا الحجر، يجعله يظهر فى وضع متميز ويمنحه سلطة أكبر ونفوذا أقوى، فتمسك بالحجر وحظر على غيره من سكان الكهف الجلوس عليه فى حضوره أو غيابه. هكذا اكتسب الكرسى، فى ظنى، سمعة رمز السلطة.

 

●●●

 

لاحظ المكتشفون الإنجليز أن مجتمعات قبلية فى إفريقيا تحتفظ كل واحدة منها بما يشبه الكرسى Stool، وهو عبارة عن قطعة من جذع شجرة على أربعة قوائم أو بدونها، وبدون مساند على الجانبين أو ظهر إلى الخلف، يجلس عليه شيخ القبيلة. لاحظوا أيضا أن لا أحد فى القبيلة يجرؤ على نحت كرسى مشابه، وأن لا أحد يجلس على هذا الكرسى، إلا فى حالة وفاة الزعيم وانتخاب من يحل محله.

 

●●●

 

رأيت صورا للقاعة التى كان أباطرة الصين يستقبلون فيها ضيوفهم ووزراءهم. كان واضحا من تلك الصور أن مهندس القاعة راعى أن يحتفظ للإمبراطور بأعلى موقع فى القاعة وأفخم كرسى، وأن تخلو القاعة تماما من كراسى من أى نوع وإن كان مسموحا لضيف بعينه أن يصطحب معه وسادة ليضع عليها ركبتيه أثناء الزيارة. وفى حالة الضيوف الأجانب، كان مسموحا لهم الجلوس على مقاعد يؤتى بها خصيصا بشرط أن تكون مستقيمة الظهر وبدون مساند فلا ينسى الجالس نفسه فى حضرة الإمبراطور ويرتاح إلى حد قد يوحى بقلة الاحترام أو نقص التبجيل خاصة أنه، كأى أجنبيا، سليل البرابرة «طوال الأنف»، وبفهم آخر أقل تحضرا.

 

تبينت بعد سنوات، من ان هذه الصور واللوحات التى رأيتها فى صغرى لقصور الإمبراطور الصينى، لا تختلف كثيرا عن حقيقة ما رأيت ولمست واستعملت فى بيوت الطبقة الوسطى فى هونج كونج باستثناء فخامة الأثاث واللوحات. ففى كل بيت من هذه البيوت كانت توجد قاعة استقبال يتصدرها كرسى مخصص لرأس العائلة. وعلى جانبى القاعة تصطف كراسى من نفس طراز كرسى رأس العائلة وإن بدون ذراعين وأقل حجما، ليجلس عليها أبناء العائلة لا يتحركون ولا يتكلمون إلا بإذن من الجالس على كرسى الصدارة. تقول الروايات إن رأس العائلة كان يتعمد أحيانا أن تستمر الجلسة ساعات دون أن يتبادل الحضور حديثا من أى نوع. المهم تلقين الصغار مبدأ احترام الكبير.

 

●●●

 

حرص أهل الغرب على الاحتفاظ للكرسى برمزيته القيادية، وأخص بالذكر حالة تمسك الإنجليز بنظام الجلوس فى مجلس العموم، حيث يجلس النواب ورئيس الحكومة ووزراؤه على «دكك» خشبية اكتست مؤخرا بالجلد، بينما الكرسى الوحيد فى القاعة يحتله رئيس أو رئيسة البرلمان، باعتباره الشخص الأقوى والسلطة الأعظم فى هذه القاعة.

 

 كنا ونحن شباب نشعر بالرهبة والهيبة فى كل مرة ندخل قاعة المحاضرات بالجامعة. وقتها كان للأستاذ المحاضر هيبة وللقاعة رهبة وللعلم احترام. بل كان الجلوس على الكرسى الذى يحاضرنا منه الأستاذ حلم السنوات الأربع وقد تحقق لقليلين. أعرف بعضا منهم زهد بعد سنوات قليلة، وكانت حجتهم أن الكرسى فقد الهيبة بعد أن فقدت القاعة الرهبة وفقد العلم الاحترام والتبجيل.

 

●●●

 

تقول السيدة كرانز الأستاذ بجامعة كاليفورنيا ومؤلفة كتاب صدر حديثا بعنوان «تاريخ الكراسى»، إن تطور الكرسى خضع كثيرا لتطورات البيئة المحيطة به، وتضرب مثلا بالتطور فى أزياء الرجال والنساء فى عهد لويس الخامس عشر. إذ احتاجت الملابس الواسعة والمزركشة والمنتفخة وكانت ــ مودة ذلك العهد ــ إلى كراسى أرحب مكسوة بأقمشة أو جلود فاخرة تتناسب وهذه الأزياء. لذلك ليس غريبا ان يلقب عهد آخر ملوك فرنسا بالعصر الذهبى للكرسى، فقد ازداد فيه وزن الكرسى فى إنجلترا ومستعمراتها الأمريكية وازداد رقة وجمالا وفخامة فى فرنسا. وعلى كل حال لم يحصل الكرسى على حقه فى الانتشار الواسع ويؤدى وظيفة جليلة فى خدمة مبدأ المساواة بين الطبقات وتوسيع نطاق الديمقراطية إلا بعد عام 1883 حين اخترع أحد الفرنسيين «كرسى البيسترو»، وهو الكرسى الذى يجرى انتاجه الآن فى كل دول العالم ويجلس عليه الناس فى مقاهى القاهرة وعلى أرصفة شوارع باريس وفى مطاعم عديد المدن فى شرق العالم وغربه.

 

●●●

 

كان السياسيون الرومان الزعماء الوحيدين فى التاريخ الذين لم يهتموا بالكرسى كرمز سلطة ونفوذ. هؤلاء مارسوا الحكم من «السرير» وليس من الكرسى. كان السرير هو قطعة الأثاث الأكثر استخداما فى قصور الحكم وبيوت العامة. ففى السرير كان أهل روما يتبادلون الطعام والشراب، ومنه كانت تقاد الإمبراطورية، وعليه كانت توضع الخطط الحربية وتدار المؤامرات السياسية. وتكشف اللوحات الفنية الرائعة التى خلفها الفنانون الرومان عن طبيعة العلاقات والسهرات التى كانت تقام فى قصور روما عندما كان يخصص لكل ضيف سرير وأمامه مائدة تغطيها صنوف الطعام والشراب.

 

●●●

 

شكوت إلى طبيب من ألم فى ظهرى وبعد الكشف والنقاش والمداولة أصدر حكمه بحجزى فى «السرير» لأننى تواطأت مع «كرسى» أو أكثر فى ارتكاب جريمة الإضرار بعضلات الظهر وفقراته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved