العروبة تتقدم الإسلام كهوية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2013 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

نشأت أجيال عربية فى ظل الإيمان بأن روابط عميقة من أسباب الحياة ووحدة الأهداف فى التحرر والتقدم واستعادة الهوية القومية الجامعة تشد بعضهم إلى البعض الآخر، بمعزل عن البعد الجغرافى واختلاف الأحوال والمناخات السائدة.

 

مع بداية القرن العشرين أخذت هذه الروابط تتبلور فى صيغة سياسية ــ عقائدية تؤكد على «العروبة» كهوية جامعة للعرب الذين عاشوا دهورا تحت أنماط من السيطرة الأجنبية، أبرزها هيمنة العثمانيين على معظم أرضهم بداية تحت عنوان الخلافة ثم تحت العنوان التركى بعدما صار الحكم للسلاطين...

 

وحتى بعد إسقاط «السلطنة» ظل الأتراك يسيطرون على البلاد العربية التى كان يتوزعها «الولاة» ثم الحكام العسكريون بعد تفجر الحرب العالمية الأولى.

 

ربما بسبب تراث الخلافة التى بدأت عربية ثم انتهت ممالك وإمارات مقتتلة، يحكم معظمها ولاة من غير العرب، قبل أن يحل «السلاطين» محل الخلفاء بعد استتباب الأمر للأتراك ظلت العلاقة ملتبسة بين دين الأكثرية، الإسلام، وهوية الأمة جميعا، العروبة.

 

وعبر مواجهة قوى الاستعمار وارتفاع الدعوة إلى التحرر والاستقلال ومقاومة القهر الذى استطال قرونا، تقدمت الهوية الوطنية ــ القومية على الهوية الدينية، خصوصا وقد باتت رموز السلطة الفعلية من غير العرب.. وصارت العروبة عامل توحيد بين «المواطنين» على اختلاف أديانهم وطوائفهم.

 

تبدى واضحا، آنذاك، أن لا فرق بين استعمار «إسلامى» ممثلا بالسلطنة العثمانية وبين استعمار «مسيحى» مثله الاحتلال الأوروبى لمعظم الأقطار العربية: فالقهر واحد، ومحاولة طمس الهوية الجامعة تستهدف جميع «الرعايا» فى مختلف الأقطار التى أعاد صياغتها الاستعمار «دولا» وقسمها المنتصرون – بريطانيا وفرنسا أساسا – فيما بينها حتى من قبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها.

 

فمعاهدة سايكس - بيكو وضعت سنة 1916 ووعد بلفور بمنح فلسطين لليهود لكى يقيموا دولتهم إسرائيل فيها، بموافقة وزير الخارجية البريطانى سنة 1917.

 

ومؤكد أن الاستعمار الغربى قد حاول الإفادة من الحركة القومية، التى حملت عنوان العروبة، فى نشأتها الأولى، ليوظف عداءها للاحتلال التركى فى خدمة مشروعه للهيمنة على المنطقة العربية جميعا، لكن ذلك لم يمنع هذه الحركة من أن تقاتل ضد الاستعمار الغربى فى سوريا والعراق، وأولا وأخيرا فى فلسطين.

 

كان على العرب أن يخوضوا، بأنفسهم ومباشرة، حروب تحرير بلادهم من الاستعمار الغربى الذى حل محل الاستعمار التركى.. وبين المفارقات أن تقسيم هذه البلاد فرض عليهم أن يواجهوا استعمارين فى وقت واحد، وكذلك أن يواجهوا تخلف مجتمعاتهم وانعدام الحياة السياسية فيها بعد دهر الاحتلال العثمانى الطويل، ثم سيطرة المستعمر الجديد قبل أن يلتقطوا أنفاسهم ويتقاربوا فيتواصلوا ويوحدوا جهودهم من أجل تأكيد انتمائهم إلى الأمة الواحدة وانجاز الاستقلال فى آن.

 

•••

 

لم ينفع الغطاء الدينى للعثمانيين ثم الأتراك (المسلمين) فى إخراج العرب (المسلمين بأكثريتهم الساحقة، على اختلاف الطوائف) من ميدان النضال من أجل الاستقلال، وكانت العروبة رابطا قويا يجمعهم على هدف التحرر واستعادة هويتهم القومية الجامعة ولو فرض عليهم الاستعمار الغربى أن يتوزعوا على دول «مستنبتة» جغرافيا وليس لها ذكر فى التاريخ.

 

ولم يكن الدين الحنيف أساسا لقيام هذه «الدول» فى ظل الاستعمار ولا هو كان بين أسباب بقائها بعد «الاستقلال»، خصوصا وإنها أطلت على الحياة «كدول علمانية» ونصت معظم دساتيرها على أن «الإسلام مصدر أساسى للتشريع» لتنفى عن ذاتها الهوية الدينية توكيدا لأنها دولة مواطنيها جميعا على اختلاف أديانهم».

 

وحيث قامت الدولة على أساس «دينى»، كالسعودية مثلا، فإن المذهب الحنبلى بنسخته الوهابية السلفية قد همش إلى حد الطمس المذاهب السنية الأخرى، وكاد يكفر المنتمون إليها فكيف بمتبعى المذاهب المختلفة كالسنة من الشوافع والمالكية والحنفية، ثم الشيعة والزيدية، فضلا عن الإسماعيلية والدروز والعلويين... إلخ.

 

لقد اعتبر الإسلام السياسى «العروبة» عدوه الأول وقاتلها بشراسة فى فترة نهوضها، مقدما التصادم معها على مواجهة الاستعمار، سواء بريطانيا كما فى مصر وليبيا، أو فرنسا كما كان الحال فى لبنان وسوريا، وقبل الوصول إلى أقطار المغرب العربى، مثل تونس والمغرب ثم الجزائر التى قدمت مليونا من الشهداء من أجل استعادة هويتها الوطنية التى يشكل الدين الحنيف أحد أهم ركائزها وإن هى لم تنهض بعد الاستقلال دولة دينية، بل عمدت إلى تأكيد عروبتها بمواقفها عموما، وأبرزها مشاركتها فى صد الحروب الإسرائيلية ونصرة الشعب الفلسطينى فى نضاله من أجل تحرير أرضه.

 

وها هو الإسلام السياسى يتقدم الآن نحو السلطة بعدما نجح فى ركوب موجة الانتفاضات العربية، مثقلا بعقدة اضطهاده، فى الماضى، مقررا أن العروبة ــ وهى تتضمن الوطنية فى جوهرها ــ كفر وشرك، مندفعا إلى تقديم أوراق اعتماده إلى الإدارة الأمريكية مع تزكية علنية من دولة العدو الإسرائيلى التى لم يجد مبررا لمعاداتها.

 

اللافت أن الإخوان المسلمين قد سلكوا بعد قفزهم إلى السلطة من خارج التوقع، السياسة ذاتها التى يسلكها السلفيون: إذ تقدموا يطلبون التزكية والمساعدات الأمريكية ونافقوا الوهابيين فى السعودية وهم ــ نظريا ــ خصومهم العقائديون، والقطريون الوهابيون أصلا وإن استفادوا من الشيخ القرضاوى والتنظيم الدولى للإخوان المسلمين للتمويه ولأغراض سياسية.

 

وهكذا تلاقت فصائل الإسلام السياسى جميعا فى مناهضة «العروبة» وتكفير المؤمنين بها طريقا إلى «دولة مواطنين لا رعايا»، والأخطر التنكر لحقيقة أن الأرض العربية «محتلة» سواء بالكيان الصهيونى أو بالهيمنة الأمريكية ولو من دون جيوش احتلال، وإن قرار من يرفعون الشعار الإسلامى من حكامها هو الخروج من موجبات المصير المشترك والمواجهة المفروضة مع أعداء هذه الأمة وطموحها إلى الوحدة والتقدم.

 

على أن الأخطر أن الإسلاميين عموما يهددون اليوم بشعاراتهم كما بممارساتهم وحدة الأمة، بل وحدة كل دولة من دولها، وطموحها إلى الاستقلال والسيادة والكرامة... بل إنهم يهدرون كفاح أجيال من المجاهدين الذين قاتلوا حتى الشهادة من أجل الحرية والكرامة واستمروا على إيمانهم بحق أمتهم ــ ودولها ــ بالاستقلال وبناء غدها الأفضل.

 

••• 

 

إن التاريخ هو أصدق شاهد على هوية الأمة. ويشهد التاريخ أن كثرة من المفكرين والمناضلين فضلا عن الشهداء الذين صنعوا مجد العروبة المعاصرة عبر نضالهم الطويل الذين كثيرا ما قادهم إلى المواجهة مع الاستعمار بمضمونه السياسى وليس بالهوية الدينية للمستعمر، كانوا من مختلف أطياف هذه الأمة، ومنهم المسلم السنى والشيعى والدرزى والعلوى والإسماعيلى والزيدى، وإن ظل العديد من طلائعهم من المسيحيين.

 

 والأمة بجميع أبنائها، ولجميع أبنائها، وليس لحزب فيها أو جماعة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved