العرب يعودون إلى جاهليتهم قبائل وطوائف وأعراق مقتتلة..

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 12 يوليه 2016 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

ها هم «العرب» يغادرون العصر عائدين بفعل أنظمة القمع والتخلف إلى جاهلية جديدة أقسى بما لا يقاس من جاهليتهم الأولى لاختلاف الزمان وأحوال العالم من حولهم.
ها هم يستعيدون جاهلية الماضى بتسميات حديثة: القبائل والعشائر ببطونها والأفخاذ جددت نفسها عبر الطائفية والمذهبية.

يقتل العرب «عروبتهم» كل يوم، فى بلادهم التى لم تعد أوطانهم... الأوطان رحبة تتسع لكل أهلها، بل هى تقوم بأهلها، فإذا انشقوا على أنفسهم، بطوائفهم ومذاهبهم، سقطت الأوطان ودولها التى استولدت، فى الغالب الأعم، قيصريا، وارتضاها أهلها مرغمين.
صار «الوطن» الواحد دولا ودويلات. اقتطعت دول لعروش لم يعرف شيوخها «الدولة» فى أى يوم.
يقتل العرب عروبتهم، ويقتلون بعضهم بعضا، فى بلادهم التى لم يعودوا يرون فيها ــ موحدة ــ بلادهم...
ويقتل المسلمون دينهم الحنيف كل ساعة وحيثما تواجدوا، فى ديارهم أو فى مغترباتهم.. ويشاركون «العرب» فى قتل العروبة باعتبارها بدعة غربية، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار، فكيف إذا كانت بدعة الهوية القومية، أو العروبة... أليس المسيحيون هم من رمى أهلهم المسلمين بهذه البدعة، ثم أغروا بها إخوانهم من بدو المنطقة والخارجين على إسلامهم؟
***
تتهاوى الدول العربية، مشرقا بالأساس، وبعض المغرب، بعد أقل من مائة عام على إقامتها «بالقرار الأجنبى»، استكمالا للتحرر من التتريك وفى محاولة لصد موجات التغريب، مع أن الغرب هو من استولد معظم هذه الدول بالكيانات التى نعرفها اليوم.
لبنان المتصرفية ذات الوضع الخاص لأسباب طائفية صار الجمهورية اللبنانية، بعد ضم ما يسمى «الأقضية الأربعة» التى كانت ضمن ولايات عثمانية إليه.
أما سوريا فقد حاول المستعمر الفرنسى تقسيمها إلى أربع دول، على أساس طائفى، فلما فشلت المحاولة اكتفى بأن اقتطع البريطانيون شرقى نهر الأردن ليجعلوها إمارة هاشمية للشريف الذى صار أميرا ثم ملكا بعد ضياع فلسطين عبدالله بن الحسين الهاشمى بينما اقتطع الأتراك «لواء إسكندرون» ليظلوا محايدين فى الحرب العالمية الثانية.
فأما العراق فقد استولد قيصريا ليكون عرشا لفيصل الأول ابن الشريف حسين أيضا، وتعويضا له عن حلم استعادة الخلافة – بهاشميته ــ على بلاد العرب جميعا..
وأما فلسطين التى أصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك وعده بأن تكون «دولة لليهود» على حساب أهلها العرب، فقد وضعت تحت الانتداب البريطانى لنحو ثلاثين سنة، أى ريثما يستكمل اليهود عدة الحرب التى تفوقوا بها على العرب مجتمعين، فطردوا أهلها منها ليقيموا دولتهم فوقها بضمان التفوق العسكرى على مختلف الدول العربية المجاورة (وأساسا مصر وسوريا).
حتى هذه اللحظة، تبدو دول الخليج التى أنشأها النفط والغاز بحراسة قوى الاستعمار القديم(بريطانيا) والجديد (الولايات المتحدة الأمريكية) وغفلة العرب أو تسليمهم بقرار الأقوى، وكأنها «قد وجدت لتبقى».. فتحولت إماراتها التى لم يكن لها وجود فى التاريخ، إلى «دول» غنية، تفيض ثرواتها من النفط والغاز عن حاجات شعوبها (التى تجرى زيادة أعداد «مواطنيها»، منهجيا، عن طريق تجنيس آلاف مؤلفة من رعايا بعض الدول الفقيرة، لا سيما من بدوها الذى لم يعرفوا «الدول» ولا «الحدود» بينها، ولذلك ما زالوا يتحركون داخل انتشار قبائلهم على امتداد البادية بين السعودية ــ العراق – الأردن – سوريا... ومفهوم أنه يمكن «شراء» هؤلاء بهوية مذهبة وراتب شهرى وتحت شعار «بلاد العرب للعرب»)...
***
أما الدول التى استولد كيانها «الاستعمار» مثل سوريا والعراق، فتبدو مهددة فى وحدة شعبها، كما فى كيانها السياسى... فى حين ترسل دول محدودة السكان «قواتها العسكرية»، والطيران أساسا، إلى اليمن لتقصف مدنها وقراها الفقيرة المعلقة فوق جبال جرداء.
وأما لبنان فقد خاض شعبه حربا أهلية – عربية – دولية امتدت لأكثر من خمس عشرة سنة دموية، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين أساسا، وآلاف أخرى من هويات عربية متعددة.
وهكذا يعيش لبنان اليوم ارتجاجات الحرب فى سوريا وعليها، فيهتز مجددا ويستشعر أهله الخطر على الكيان وعلى وجودهم فيه، فيندفعون مهاجرين نحو أية دولة تقبلهم فى الغرب أساسا (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا بالدرجة الأولى ثم بعض دول أوروبا ــ ولو كلاجئين لا يحملون جوازات سفر، مما يضطر السلطات فى شمالى أوروبا السويد، النرويج، الدنمارك ــ إلى قبولهم كلاجئين، ثم تمنحهم – بعد شهور قاسية – جنسيتها..).
مع الوصول إلى سوريا نغرق فى المأساة المفتوحة على المجهول، والتى ذهب ضحيتها ــ حتى اليوم ــ نحو نصف مليون رجل وامرأة وطفل ــ فى حين شردت الحرب ربع شعبها فى أربع رياح الدنيا، بينما ثلث الشعب مهجر داخل وطنه..
ليست مبالغة القول إن «نصف العالم» يقاتل فى سوريا... وبين هذا النصف دول عربية عدة، يعلن مسئولوها الحرب عليها بذريعة مخاصمة نظامها إلى حد تهجير شعبها وتدمير دولتها الممزقة جهات وإمارات بعضها فى قبضة «داعش»، وبعض آخر فى قبضة «جبهة النصرة»، وثمة «جيوش» عديدة بعضها ترعاه تركيا منفردة وبعضها بالاشتراك مع دول عربية لا تخفى انخراطها فى هذه الحرب التى تكاد تذهب بالدولة والشعب فى سوريا، وتبررها بالعداء للنظام الحاكم فى دمشق.
أما المأساة العراقية فقد أثبتت أن الحكم الطائفى يدمر الدول ولا يبنيها.. أما القضاء على الطائفية التى استولدها ورعاها الاستعمار، ثم أفاد منها بعض المنسيين ممن تركوا العراق أيام محنته، ثم عادوا ليحكموه فى ظل الاحتلال الأمريكى، فمهمة جليلة تحتاج مجاهدين يقدمون الوطن على الطائفة، ويقدمون الدولة على المصالح الفئوية والشخصية... وهذه مهمات تحتاج أبطالا وقديسين، ومن أسف فإن أمثال هؤلاء معددون، وغالبا ما يفسدهم شبق السلطة.
أما حين نصل إلى اليمن فلسوف نشهد صورة مجسمة للانحطاط العربى فى قلب المستنقع الطائفى والمذهبى المغذى من خارجها ولأسباب لا علاقة لها بالوطنية أو بالعروبة والإسلام..
فاليمن التى تشن عليها الحرب من خارجها لا يوفر أصحاب المصلحة فيها سلاحا محرما إلا ويستخدمونه.. وأخطر الأسلحة هى الطائفية معززة بالجهوية. فحيث لم تكن تستطيع التمييز بين الزيدى (الشيعى) والشافعى (السنى)، بات الحديث علنيا الآن عن الاشتباه بوطنية الزيود (أى من يطلق عليهم تسمية الحوثيين، والحوثيون هم السادة الذين يعودون بنسبهم إلى سلالة الرسول العربى محمد بن عبدالله..) مقابل صدق وطنية (الشوافع) الذين تحاول السعودية استمالتهم سياسيا وتُمنيهم بالسلطة بعد تحريرها من الزيود..
***
يمكن الخروج من قراءة سريعة، وبالسياسة، لهذه الحروب الأهلية / العربية/ الدولية، باستنتاج محدد: أن عددا من الدول العربية التى كانت قائمة مهددة بالتصدع بل وربما بالاندثار.
إن الوطنية معززة بالعروبة كانت الهوية المميزة للشعب السورى.. ولم تكن الأعراق غير العربية (السريان، الأكراد، والتركمان الخ..) تشعر بالغربة أو بأنها منبوذة أو مستبعدة عن السلطة، وقد رأس جمهورية سوريا عبر تاريخها الاستقلالى عرب وأكراد ومتحدرون من أصول تركية أو تركمانية..
كذلك فقد شارك فى حكم العراق بعد استقلاله متحدرون من أعراق غير عربية (أتراك، تركمان وكرد، إلخ..) لكنهم كانوا جميعهم عراقيين.
أما اليوم فنحن نشهد تهاوى الدول العربية وتصدع شعور أهلها بالمواطنة، فيهرب المواطنون ــ مع تهالك الدولة – من عروبتهم التى شكلت هوية متكاملة بالدين واللغة والأرض ــ إلى جنسيات ولغات مستعارة من بلاد غريبة مرتضين الغربة فيها بل ويفضلونها على هويتهم الأصلية.
إن النخب العربية تهجر بلادها التى تضيق أنظمتها بهم فلا تقبلهم إلا«عبيدا» أو «رعية» لا رأى لها فى كل ما يتصل بنظام الحكم، فضلا عن أن الحاكم الذى يتولى أمورهم لا يموت ولا يغادر موقعه إلا بثورة أو بحرب أهلية تذهب بالبلاد.
وواضح أن عددا من الدول العربية، لا سيما فى المشرق، دون أن ننسى ليبيا فى المغرب، والسودان فى الوسط، تخسر هويتها الوطنية – القومية، وتغرق شعوبها فى دمائها.
بالمقابل تتعاظم قوة العدو الإسرائيلى، وتخترق «دولته» العديد من الدول العربية بينما تجتاح أفريقيا التى كانت مقفلة دونها، ذات يوم، لأسباب تتصل بعنصريتها وعدوانيتها وتشريدها شعب فلسطين من دياره، وحروبها المتكررة ضد الدول العربية المحيطة.

رئيس تحرير جريدة السفير

اقتباس
نشهد اليوم تهاوى الدول العربية وتصدع شعور أهلها بالمواطنة، فيهرب المواطنون ــ مع تهالك الدولة – من عروبتهم التى شكلت هوية متكاملة بالدين واللغة والأرض ــ إلى جنسيات ولغات مستعارة من بلاد غريبة مرتضين الغربة فيها بل ويفضلونها على هويتهم الأصلية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved