عالم اليوم فى نظر دبلوماسى مخضرم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 12 سبتمبر 2018 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

جمعتنا سهرة ممتعة. كنا مجموعة أفراد من جنسيات مختلفة متابعين للشئون الدولية. بيننا من عمل طويلا أو عابرا فى حقل الدبلوماسية وتقاعد ولم يبتعد عن الملاحظة والمتابعة. بيننا أيضا ممارسون للدبلوماسية لا يزالون عند منتصف الطريق وإعلاميون رافقوا مسيرات وتحولات سياسية عالمية كبرى. أحد هؤلاء افتتح الجلسة بعرض رؤيته لحال إحدى أهم وزارات الخارجية فى العالم، وهى وزارة الخارجية الأمريكية. قال إن هذه الوزارة العتيدة بتاريخها المعروف ودورها المشهود فى صنع وتنفيذ السياسة الخارجية لدولة عاشت عظمى لفترة سبعين عاما أو أكثر. هذه الوزارة هى الآن فى حال كمون بعد أن تنازلت طوعا أو قسرا عن بعض وظائفها لأجهزة أخرى فى الدولة الأمريكية. وجد بيننا صديق مخضرم فى العمل الدبلوماسى، اعتبرناه دوما مرجعنا فى المعلومات عن خفايا العلاقات بين الدول، وما أكثرها. واعتمدناه محللا موضوعيا ومتزنا ومتوازنا لقضايا وأزمات دولية معقدة أو متفجرة. طلب التعليق على رؤية الزميل الذى تحدث عن الحال التعيسة التى انحدرت إليها وزارة الخارجية الأمريكية.
***
أثنى الدبلوماسى المخضرم على هذه الرؤية مؤكدا أن حال الخارجية الأمريكية فى ظل حكومة الرئيس دونالد ترامب تستحق منا جميعا الاهتمام. يجب أن نعترف بداية إنها ليست المرة الأولى التى تمتد فيها أيادى أجهزة أخرى فى الدولة الأمريكية لتعبث فى شئون أمريكا الخارجية أو لتتدخل سعيا وراء صنع سياسات أفضل أو التنفيذ بأساليب أكفأ وأسرع. ولا شك أن تجربة كل من هنرى كيسنجر فى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وزبيغنيو برجنسكى فى عهد الرئيس جيمى كارتر عندما نقلا ثقل العمل الدبلوماسى الأمريكى من وزارة الخارجية إلى مجلس الأمن القومى لا تزال حية فى ذاكرتنا. التجربة الأحدث هى تلك التى تتعلق بشأن من أهم شئوننا العربية. إذ حدث أن قام أفراد يمثلون جماعة صهيونية باختطاف قضية فلسطين من جميع ملفات وأجهزة الدبلوماسية الأمريكية ومنها وزارة الخارجية. إنها أكبر عملية سطو معلن من فردين أو ثلاثة أحدهم زوج ابنة الرئيس لتنفيذ ما فشلت الخارجية والرئاسة الأمريكيتين فى تحقيقه لليهود على امتداد عمر هذه القضية.
يجب أيضا الاعتراف بأن واشنطن ليست الوحيدة فى عالمنا المعاصر التى قررت تنحية وزارة الخارجية عن أداء بعض أهم مهامها. واقع الحال يعلن صراحة أن عددا كبيرا ومتزايدا من العواصم اتخذ فى السنوات الأخيرة القرار ذاته، إما تقليدا أعمى للقرار الأمريكى أو تماشيا مع تطورات أخرى داخلية وخارجية استدعت الاستغناء المؤقت عن دور أو آخر تخصصت فيه وزارات الخارجية.
أضاف يقول إن تطورات مهمة دفعت إلى انحسار دور وزارات الخارجية وربما أخرت مرتبتها فى سلم ومراتب مؤسسات الحكم. وقد لا تكون جلستنا الليلة المناسبة الأفضل للتركيز على موضوع وزارات الخارجية قبل أن نعرض لأهم القضايا والتحولات التى غيرت وجه العالم كله تغييرا جذريا. دعونا نعترف أولا بأن الفساد بكل أطيافه وأبعاده صار عنصرا حاكما فى عالم اليوم. كان دائما موجودا وكلنا كدبلوماسيين وضعناه فى اعتبارنا ولم نستبعده تماما ونحن نتابع ونحلل، ولكنه لم يكن فى أى يوم متوحشا وشرسا كما هو الآن. كان الرئيس الأمريكى وأعوانه يتلقون هدايا أثناء وبعد زياراتهم الرسمية والخاصة وكانوا يبلغون عنها فور وصولهم إلى واشنطن لتودع فى مكانها المناسب. هم الآن، وأقصد تحديدا عائلة الرئيس الأمريكية، يتلقون هدايا سمعنا أنها أثمن كثيرا من هدايا الماضى وسمعنا أنها لم يبلغ عنها واحتفظ بها لأنفسهم المسئولون الذى زاروا وتلقوا الهدايا. تجاربنا فى الدبلوماسية علمتنا أن الهدايا الباهظة القيمة يجب أن نحسبها على مقدميها ومتلقيها كنوع من الرشوة فهى بلا شك تفرض الالتزام بمقابل. بمعنى آخر هى مقايضة أو صفقة مادية الشكل سياسية الهدف، أى من صميم العلاقات بين الدول. معلوماتنا تقول إن حكومات عديدة، حسنة النوايا، استسلمت فى حروبها ضد الفساد وصارت تركز على إجراء مكافحات صورية، إعلامية الطابع، ضد الفساد الصغير لإشغال المواطن عن فظائع الفساد الكبير، وتأكيد الاستقرار، وطمأنة المستثمر الأجنبى على مشاريعه ومصير أمواله، وإن صار أغلبهم يصلون مزودين بأسماء وحسابات صناع الفساد الكبير. كدبلوماسيين كنا فى الماضى نتحدث عن نزاهة الاقتصاد فى بلادنا مع المستثمر الأجنبى مقارنا بالحال فى بلاد أخرى. الآن نتحدث معه عن الفساد فى بلادنا وبلاده بدون حرج فالظاهرة عالمية.
***
أشار الزميل أيضا إلى حقيقة أن دولة بعد أخرى فى عالم اليوم صارت تخضع لشكل أو آخر من أشكال الحكم الشعبوى أو تهدد استقرارها تيارات من هذا النوع. هذ الشكل من أشكال الحكم له أسلوبه الخاص فى صياغة خطابه السياسى الناطق والمطبوع على حد سواء. لم يعد سرا الوفاق الناقص الذى يخيم منذ فترة على العلاقات بين الدبلوماسيين والإعلاميين المخضرمين من ناحية وبين المسئولين وغيرهم من أفراد وأجهزة الطبقة السياسية الحاكمة من ناحية أخرى. يعتقد الطرفان أن السبب الأساسى لنقص الوفاق هو أن للشعبوية الحاكمة لغة لا يجيدها التقليديون وأنصار الديمقراطية الليبرالية وأصدقاء العالمية بمفهومها السائد منذ نشأة منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها الليبرالية. سمعنا مسئولين شعبويين عديدين فى بولندا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا ومعظم دول الشرق الأوسط، سمعناهم يستنكرون النقص فى كفاءة دبلوماسيين وإعلاميين وجامعيين ظلوا يتمسكون بلغتهم رغم أن العالم بأسره أصبح ينطق بلغة العصر. هى اللغة التى يجيد استخدامها جون بولتون وستيف بانون وبنيامين نتنياهو وإعلاميون من نوع خاص فى دول عربية.
***
استطرد الزميل المخضرم فى العمل الدبلوماسى مضيفا إلى الفساد المستشرى بوحشية والشعبوية بأشكالها المتنوعة والزاحفة معالم أخرى من العالم الجديد الذى نعيش فيه ــ يتصدر هذه المعالم الأخرى ميل عام جديد فى جميع الدول نحو اليمين ــ قال: تعرفون يا أصدقائى أن الدبلوماسية بحكم التعريف لا يقربها عادة غير المحافظين وبخاصة ذوو الميول اليسارية. وقع على أغلبنا من المنضمين قبل زمن العولمة الاتهام من جانب حكام ومفكرين يساريين فى جميع مواقع عملنا بأننا من فصائل التخلف السياسى والرجعية الأيديولوجية. أتت فترات تعرض بعضنا لاتهامات من أنواع أخرى. فينا من صعقته وأضعفت كفاءته جحافل اليمين الزاحف ليحتل جميع منابر السلطة والاقتصاد والثقافة والدين فى المجتمع. العالم، يا أصدقائى، هو الآن أشد يمينية من كل اتهام ابتلينا به عندما كان اليسار الماركسى يهيمن أو يحاول فرض الهيمنة. اليمين متطرفا باتزان أم متشددا بوحشية نراه فى عالم اليوم محاطا بالفساد وشعبويات الحكم ومعالم أخرى فى سعى جسور نحو تحقيق عالم جديد تتكامل لتشكيله هذه المعالم.
ويستمر النقاش فالليلة لا تزال فى بدايتها...

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved