تفكيك عقدة «الأسد»

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 12 أكتوبر 2015 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضى لم يشهد العالم استقطابا حادا فى اختبارات القوة وحدود النفوذ بين اللاعبين الدوليين الكبار كالذى يحدث الآن فى الأزمة السورية.

فى المبادرة الروسية بالسلاح والدبلوماسية لتغيير حسابات القوة على الأرض، أهداف واضحة ووسائل تزكى توسيع أدوارها فى أى تسوية محتملة.
وفى اضطراب الاستراتيجية الأمريكية شكوك عميقة بقدرتها على مواجهة التحدى الروسى، بما يتجاوز شن حملات إعلامية وسياسية تشكك فى جدوى العمليات العسكرية وتنال من أهدافها.
بين السلاح والسياسة والإعلام حسابات متضاربة ومصالح كبرى.
هناك سؤالان رئيسيان فى كل هذه الحسابات التى تحكمها مصالحها.

الأول: ماذا بعد «بشار الأسد».. وأى أوضاع يمكن أن تستقر عليها سوريا من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية؟
جوهر السؤال لا يتعلق بشخصه ومصيره، فهو فى نهاية المطاف سوف يغادر منصبه بسيناريو أو آخر، بقدر ما يعكس صراعا ضاريا على المصير السورى كله.
الثانى، ماذا بعد «داعش».. وأى ترتيبات استراتيجية ممكنة على خرائط الإقليم الأكثر اشتعالاً فى العالم؟
وجوهر السؤال يدخل فى مجاله صراعات على النفوذ والقوة والمصالح تمتد من سوريا إلى دول مجاورة فى المشرق العربى واصلة تأثيراتها إلى مصر وإيران وتركيا والخليج.
فى الأزمة السورية تتحدد الخطوط العريضة لصورة المستقبل فى الإقليم وموازين القوى، التى سوف تحكمه لحقب طويلة مقبلة.
دخول روسيا على خط الأزمة بحجم لم يكن متوقعا تعبير صريح عن تصوراتها لأدوارها فى عالم يتغير وتعويم لأوزانها كـ«دول عظمى» لها كلمتها النافذة فى أى ترتيبات محتملة بالإقليم أو فى أى أقاليم أخرى.
قوة حضور لها تداعياتها فى الأزمة الأوكرانية الأكثر أهمية بحسابات الأمن القومى المباشر.

فى إطلاق بوارج أسطولها البحرى صواريخ بعيدة المدى من بحر قزوين، مرورا بالمجالين الجويين الإيرانى والعراقى إلى مواقع داخل سوريا رسالة سياسية أكثر منها عسكرية.
من الناحية العسكرية فالغارات المكثفة التى تضرب مواقع «داعش» و«النصرة» ومنظمات أخرى متباينة لإفساح المجال أمام تقدم برى للجيش السورى لا تحتاج إلى دعم إضافى من على بعد ألف وخمسمائة كيلومتر.
ما جرى بالضبط استعراض سياسى بقوة السلاح بالقرب من أوكرانيا، والرسالة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى قبل الإقليم ودوله.
جر العالم إلى الحافة مجازفة محسوبة تعتمد على إخفاق الاستراتيجية الأمريكية فى محاربة «داعش».
حيث يرتبك الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» يتقدم نظيره الروسى «فلاديمير بوتين».
وحيث يغير الأخير من الحقائق على الأرض فإن القادة الأوروبيين، يكتفون بتسجيل الاحتجاجات أمام الكاميرات.
فرنسا لا تقبل دمج «قوات المعارضة المعتدلة» فى الجيش السورى، الذى ارتكب مجازر بحقها على ما يقول الرئيس «فرانسوا أولاند».
وبريطانيا تتحدث عن دور لها فى سوريا دون أن يقول رئيس حكومتها «ديفيد كاميرون» كيف أو يجيب عن سؤال لماذا أخفق التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة على هذا النحو الذريع.
الميديا الغربية انخرطت فى حملة ضد روسيا كأنها أوركسترا، دون أن يكون لديها ما تقوله للرأى العام عن كيفية الخروج من الأزمة السورية التى أفضى بعض نتائجها المأساوية إلى تدفق مئات الألوف من المهاجرين إلى بلدانها.
فى كل المساجلات السياسية والإعلامية بين الأطراف الدولية المتنازعة هناك حقيقتان.
الأولى: أن الأزمة السورية عقدة أزمات الإقليم كله وبلا حل لها يستحيل دحر «داعش» فى العراق أو أى مكان آخر.

والثانية: أن مصير «الأسد» عقدة هذه الأزمة المستحكمة.
تفكيك «عقدة الأسد» عنوان أى تسوية محتملة.
من غير الممكن عودة سوريا إلى الوضع الذى كانت عليه قبل أربع سنوات.
هذه مسألة منتهية.
ومن غير المتاح استبعاده وفق حقائق القوة الدولية والإقليمية والداخلية.
وهذه مسألة لم يعد ممكنا تجاهلها.
بالنسبة إلى «بوتين» «الأسد» ليس هو صلب القضية السورية، وقد ألمح أكثر من مرة إلى خروج ما لكنه «ليس الآن».
بصورة واضحة وافق الأمريكيون والأوروبيون على مثل هذا الخيار بصياغات مختلفة تباينت لغتها.
فى لحظة بدا أن تسوية الأزمة ممكنة، وأمسكت روسيا بزمام المبادرة، وتحولت عاصمتها موسكو إلى مقر لاجتماعات متكررة ضمت أطرافا دولية وإقليمية، كل دول الإقليم الفاعلة تعاطت مع المبادرات الروسية.
غير أن «عقدة الأسد» بما خلفها من مصالح واستراتيجيات عطلت التقدم إلى مثل هذه التسوية.
كل لاعب دولى، وهو يقترب من تفكيك العقدة وفق مصالحه الاستراتيجية، يحاول بأقصى ما يستطيع أن يكتسب مواقع أفضل عند الذهاب مجددا إلى موائد التفاوض فى جنيف.
لا الروس متمسكون ببقاء «الأسد» تحت كل الظروف، ولا الغربيون ضد أن يكون طرفا فى أى مرحلة انتقالية.

صلب العقدة: بأى صلاحيات ولأى مدى؟
بالحساب الروسى فإن دوره جوهريا فى أى سلطة انتقالية، ومصيره يحدده شعبه بالانتخابات الحرة المباشرة تحت إشراف أممى.
فى نفس الحساب الطرف الرئيسى الآخر فى التفاوض من ائتلاف معارض يفتقد أى حضور حقيقى، فالأراضى السورية يكاد يتقاسمها النظام الحالى و«داعش» و«النصرة».
بالحساب الغربى فلا بد من تقليص دور «الأسد» فى المرحلة الانتقالية تمهيدا لخروجه الكامل من السلطة، غير أن مشكلة هذا الحساب أن بديله المقترح حالة «دعائية» أكثر من أن تكون «سياسية» و«عسكرية».
السؤال الروسى الأكثر إحراجا: «أين هو الجيش الحر حتى نفاوضه؟».
فى العمليات العسكرية الروسية استثمار لنقط الضعف الجوهرية فى الموقف الاستراتيجى للتحالف الأمريكى ومحاولة خلق حقائق على الأرض بقوة السلاح يمكن بموجبها فرض شروطها على اللاعبين الآخرين المرتبكين بفداحة.
إنه لعب على الحافة فى لحظة حرجة من تطور النظام العالمى.
رغم معاناتها الاقتصادية الصعبة فإنها قوة عسكرية هائلة.
الاقتصاد يضع حدودا للقوة الحاضرة بأكثر من أى وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفيتى.
فى ألعاب القوة من المستبعد ــ فى أى مدى منظور ــ تدخل مماثل من «الناتو» ولا تنسيق عسكرى مع موسكو من المعسكر الغربى إلا بقدر ما يمنع مخاوف الصدام العسكرى المباشر.
تدرك موسكو الحقائق وتعمل على أساسها.
حتى ما يبدو جموحا فى القوة فيه إدراك للحقائق.
لم يكن اختراق الطائرات الروسية للأجواء التركية خطأ غير مقصود، هو تحرش عسكرى عمدى ورسالة سياسية مطلوبة لردع اسطنبول عن مناهضة الحضور الروسى بالقرب من حدودها.
كما لم يكن الإعلان عن تحالف رباعى يضمها إلى طهران وبغداد ودمشق جملة عابرة فى الموقف المشتعل.
التصعيد العسكرى يرافقه كلام دبلوماسى عن الحل السياسى وفرصه والاستعداد لتعاون مشترك فى الحرب على «داعش» ومبادرات محتملة فى هذا الاتجاه خلال أكتوبر الحالى.
أمام الزخم الروسى لا يوجد لدى الولايات المتحدة ــ حتى الآن ــ ما تقوله لحلفائها.
الروس حذرون من التورط البرى، والأمريكيون يراهنون على خطأ قاتل من مثل هذا النوع.
ألعاب القوة ما زالت فى أولها، والسيناريوهات مفتوحة على تصعيدات محتملة وتسويات ممكنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved