الإسلام السياسى يستقدم الاحتلال.. ويسقط

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 12 نوفمبر 2014 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

ثبت شرعا، وبالدليل الحسى الناصع، كما الدم الذى يغطى مساحات هائلة من أرجاء «الوطن العربى الكبير»، أن التنظيمات الإسلامية التى خرجت من باطن الأرض العربية لا تملك الأهلية لأن تقود «أمة الإيمان» إلى مستقبلها الأفضل... ولقد أسقطها «المجتمع» برفضه عمى التعصب الذى يحكم منطلقاتها المجافية لأهدافه، قبل أن تسقطها «السلطة» التى تبارت معها فى استخدام العنف فلم تستطع أن تكتسب به ما يعوض شرعيتها المنقوصة... وهى التى كانت ذريعة «الإسلاميين» فى الانقضاض عليها لإسقاطها بذريعة خروجها على مبادئ الدين الحنيف.

من تونس إلى مصر، ومن سوريا إلى العراق وانتهاء بليبيا، لم تستطع هذه التنظيمات أن تكسب «شرعية» تمثيل المجتمعات التى كانت قبلتها فى الماضى كدليل على رحابة صدرها واحترامها الشعارات التى تحملها وليس لبرنامجها كمشروع سلطة تقود فى اتجاه المستقبل.

أما حين تقدمت هذه التنظيمات لتكون «ولى الأمر» فقد فضحها مشروعها الملفق والمستخرج، مشوها، من بطن الماضى الملتبس والذى لا يمكن أن يؤخذ كمصدر للوعد بمستقبل أفضل... حتى و«أمير المؤمنين» الملفقة قيافته بحيث ينافق السنة والشيعة معا (العمامة السوداء)، ويوهم بالعصرنة (الساعة السويسرية الفخمة فى يمناه)، و«الدعاة» يستخدمون وسائط التواصل الاجتماعى المستوردة من «فسطاط الكفر» لبث أخبار فتوحاتهم مرفقة بصور حية لإعدام «الكفار» و«المشركين»، لا فرق بين المسلم والمسيحى والازيدى، كما لا فرق بين العربى عرقا والكردى والآشورى والتركمانى إلخ...

•••

لقد سقط الإخوان المسلمون فى مصر بالانتفاضة الشعبية التى ملأت الميادين بجماهير «المؤمنين» الرافضين للسلطة المرصعة بالشعار الدينى قبل أن يتولى الجيش إطلاق رصاصة الرحمة عليهم، معززا بهذا الرفض الإجماعى أكثر مما بسلاحه الذى لم يستخدم إلا فى حالات محددة ومحدودة.

أما فى تونس فقد تصرفت قيادة الإخوان بذكاء تحسد عليه (لم تتمتع بمثله رصيفتها الأعرق والأعظم خبرة فى مصر)... فتواضعت ولو مؤقتا فى طموحاتها مستسلمة لصندوق الانتخابات، بعد تجربة فى الحكم فشلت من قبل أن تكتمل.

وها هى إنجازات جيش «الخليفة أمير المؤمنين» فى العراق والشام تتجاوز بضحاياها والتخريب الذى أحدثته (وسوف تحدثه بعد)، فى المجتمع قبل الدولة، نتائج أية حرب أهلية كانت محتملة فجعلتها واقعا أسود.

أما ليبيا فتتمزق نتفا فى غمار الحرب الأهلية المعززة بقدرات استثنائية، بينها الطيران الحربى الوافد (من الإمارات فيما يقال بتسهيلات بعض دول الجوار ردا على التدخل القطرى المكشوف بذريعة الانتقام للإخوان فى مصر...) مع ذلك «فالإخوان» ومعهم تنظيمات إسلامية أشد تطرفا يقاتلون ضد إعادة تجميع أشتات هذه القارة الليبية فى «دولة ما»، وفى خطتهم انهم يمكن أن يتخذوها منصة للهجوم المضاد على النظام فى مصر الذى أسقط حلم الإخوان بإقامة دولتهم العتيدة.

على أنه يمكن للإسلاميين فى «الوطن العربى» الإدعاء، بعد، أنهم قد أثبتوا انهم القوة السياسية الوحيدة ذات الوجود الفاعل فى هذه المنطقة التى أنهكها الصراع بين «العسكر» و«الأحزاب العلمانية» التى لم تثبت جدارتها فى حكم البلاد، فكان أن خلعها «الجنرالات» أو اختلسوا منها شعاراتها وحكموا باسمها زورا وتزويرا لجيل، حينا، ولجيلين وأكثر، أحيانا.

كذلك يمكن لهؤلاء الإسلاميين أن يدعوا أنهم قد خلصوا البلاد العربية من أوهام «العروبة» وسائر أنماط الفكر العلمانى الذى يأخذ إلى الكفر، وأنهم قد أعادوا تثبيت الهوية الأصلية، أى الإسلامية، لهذه البلاد.

بل إن بوسع هؤلاء الإسلاميين أن يدعوا أن «الأنظمة العلمانية» فى كل من سوريا والعراق وليبيا، ومعها مصر أيضا، قد سقطت ولا مجال لأن تعود، وهذا فوز عظيم لهم... خصوصا وأن هذه الأنظمة قد بادرت فورا إلى الاستعانة «بفسطاط الكفر» فى مواجهة «معيدى الاعتبار إلى الدين الحنيف»، وأن الحرب الجديدة التى فتحت ستمتد طويلا، ومن الصعب اعتبار نتائجها الراهنة نهائية... وفى أى حال فإن هذه الأنظمة التى «أعادت الاستعمار الكافر إلى أرض الإسلام»، واستعانت بأساطيله الحربية فى مواجهة القرآن الكريم ودعاة الإيمان، قد خرجت من الإسلام وعليه، كما أسقطت بنفسها ادعاءاتها بأنها تعمل لتوحيد الأمة العربية من أجل غدها الأفضل. فها هى قد فتحت الأرض أمام «الاستعمار الكافر» ومكنت لسيطرته عليها مجددا وإلى أمد غير معلوم: «ربما لم ننجح تماما، ولكننا أسقطنا الكثير من الأوهام وكشفنا حقيقة هذه الأنظمة المارقة والتى تستقوى بالأجنبى على شعبها، بذريعة مقاومتنا، نحن الذين نريد تجديد «الدعوة» واستعادة عصر الفتوحات بالإيمان...».

•••

من يملك الأجوبة عن الأسئلة الصعبة التى ترتسم فى الأفق العربى الذى يحتله الضباب وافتقاد اليقين: إلى أين من هنا؟ كيف ستكون صورة الغد، ومن هى القوى التى سوف تتصدى لتشكيلها؟! وإذا سلمنا أن «النظام القديم» قد سقط فمن يملك القدرة على رسم ملامح «النظام الجديد»؟!

من يملك أن يقدم تصورا عن مستقبل سوريا؟ أو عن مستقبل العراق؟ عن مستقبل اليمن أو مستقبل ليبيا؟ هل سقطت «الدولة القديمة» فى كل من هذه الأقطار ومن يملك القدرة على رسم خريطة بلاد «الهلال الخصيب» أو «المشرق العربى» فى مستقبله؟! وأين «حدود» إسرائيل فى الخريطة الجديدة.. وأين منها فلسطين؟!

إن الأسئلة تحتل أفق المستقبل، ولا أحد يملك الأجوبة، خصوصا متى انتقلنا إلى أهداف هذه النجدات الأمريكية بالأساس والغربية عموما، وكيف سيكون تأثيرها على خريطة الغد للأرض العربية ودولها العتيدة؟!

ثم إن النار التى تلتهم جنبات العراق وتتمدد، من الجهة الأخرى، فى اليمن تشكل تهديدا مباشرا للاستقرار الذى وفرته عائدات النفط الغزيرة لأقطار الجزيرة والخليج... والأحداث الأمنية التى يتوالى تفجرها فى بعض أنحاء السعودية تنذر بمخاطر جدية على هذه المنطقة التى وفر لها ذهبها الأسود، معززا بالقبضة الحديدية والرعاية الخارجية، حالة من الاستقرار المحروس جيدا، من الداخل كما من الخارج. فهل يمكن حماية هذا الاستقرار بينما الأرض من حولها تتفجر بالبراكين، والحروب بالشعار الإسلامى تجتاح المنطقة عموما، وقد كان هذا الشعار المعزز بمواقع الأماكن المقدسة بين أسباب الحماية المعنوية للنظام القائم فيها والذى تتبدى فيه وعليه بعض مظاهر صراع الأجيال.

•••

فى ضوء هذه الوقائع يمكن فهم هذا الإشغال المنهجى للنظام الجديد فى مصر. فهذه الدولة المركزية القوية بتاريخها، كانت دائما القوة الوحيدة المؤهلة لحفظ التوازن وتوفير الحماية، لما جاورها من أقطار، خاصة، وحتى البعيد عنها، بفعل قوة التأثير المعنوى التى تملكها.

لقد تعددت الجبهات، وتنوعت أشكال المواجهات، وتحول الشعار الإسلامى من أداة جمع، ولو معنويا، إلى مصدر للانقسام إلى حد الاحتراب.

كذلك فإن «العروبة» قد أصابها ضرر عظيم نتيجة تستر أنظمة القمع، وهى بمجملها عسكرية المنشأ والممارسة، بشعاراتها التى كانت تشكل وعدا بمستقبل عربى أفضل، إذا توفر لها من يحولها من حلم أو أمل إلى خطة عمل أو برنامج سياسى قابل للتنفيذ.

إن الأمة فى حال من الضياع لم يسبق لها مثيل: لا قائد ولا قيادة، ولا حزب مؤهلا ببرنامجه لكى يقدم نفسه البديل من الأنظمة الفاشلة التى حولتها الممارسة إلى ديكتاتوريات دموية تهتم بدوام سلطتها ولو على حساب الوطن ودولته والأمة وأحلامها فى التوحد والتحرر واللحاق بالعصر.

وليس مؤهلا للنجاح وتأكيد الانتصار أن يدعى الإسلام السياسى أنه قد أسقط العروبة، أو أنه قد فتح أبواب المنطقة لعودة «الاستعمار» جديدا (من فوق) أى عبر طيرانه الحربى، لإجهاض أحلام الاستقلال وتعزيز الكيان الإسرائيلى وقدرته على الهيمنة على هذه الأرض العربية جميعا تحت المظلة الأمريكية.

على أن الأمور بخواتيمها، وما زلنا فى خضم الصراع، وأمام هذه المنطقة بعد سنوات طويلة قبل الوصول إلى شاطئ الأمان.. ولو بعيدا عن أحلامها، أو عبر التضحية بهذه الأحلام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved