أن تصفعك ماريانا

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: السبت 13 يناير 2018 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

صفعة مدوية. لا أدري لماذا فعلتها ماريانا الشقراء بنظراتها الناعمة وحضورها الواثق. لكنها فعلتها بهدوء رزين، ودقة حاسمة.

كنا جالسين في منزل صديقي أحمد في برلين. تناولنا العشاء وشاهدنا أحد كلاسيكيات السينما المصرية. اجتهد أحمد في ترجمة الحوار وشرح الفيلم بما يسهل للألمان الحاضرين الفهم والمتابعة، وما لا يشوش على باقي الحضور متعة الاستمتاع. كنت شابا حديث العهد بالسفر، لا تفصلني عن رحلة الخروج من مصر سوى سنوات قليلة. عادة أفضل الاستماع على الحديث. لا أذكر السياق الذي دفعني للكلام لكنني أذكر فقط أنني انبريت، متأثرا بمتعة مشاهدة الفيلم الواقعي الجميل، في المقارنة بين "مجتمعاتنا الشرقية حيث الدفء والعمق والعراقة" و"مجتمعات الغرب حيث المباشرة والجفاف والسطحية". كنت متأثرا ربما بكتابات فيلسوف كان يري مرة أن الشرق مثل السجادة "العجمي" بثقلها وسمكها وتشابك خيوطها، والغرب مثل "الكليم" أو ربما "الحصيرة". نحن البصيرة والسحر والعاطفة، وهم الرؤية المباشرة، والوصف المجرد، والعقل الجاف.

انتهيت من تعليقي وربما انتظرت وقتها إطراء على رأيي الثاقب. ارتفع صوت ماريانا الهاديء تسألني بحسم: إذا كان الأمر كذلك فلم لا تعود إلى بلدك؟ ما الذى أتى بك إلى هنا؟

انعقد لساني فلم أرد. كانت ضربة مفاجئة ومؤلمة وخاصة من ماريانا. التقط أحدهم خيط الحديث وتجاهلنا جميعا الأمر برمته. لم تتغير علاقتي بماريانا وظلت بعدها ودودة ولكنني لم أتوقف عن التفكير في صدمة السؤال والعبارة التي مهدت له: "إذا كان الأمر كذلك..".

هل كان الأمر كذلك بالفعل؟

لم تكن هذه الصدمة الوحيدة التي تلقيتها في رحلة التعرف على الذات. سبقتها وتلتها صدمات كثيرة ساعدتني في فهم خواء منظومة الثنائيات الحادة التي نواجه بها العالم: شرق وغرب، حق وباطل، نور وظلام، حضارة وبربرية، حلال وحرام، منقادون ومتآمرون، خير وشر. نحن دائما في الجانب الأفضل، النقي المظلوم المتحضر المنتهك والمتفوق أخلاقيا دائما. فشلنا مبرر بسبب عوامل عديدة تضافرت لتسببه، ولكنها في النهاية خارجنا ونحن "في الحقيقة" الأفضل. هكذا أخبرنا هؤلاء الذين يعرفون أن لغتنا هي الأعذب والأدق، وبلدنا هو الأجمل، وعقيدتنا هي الأصح. رغم أنهم عادة لا يعرفون لغة أخرى، ولم يزوروا بلدا آخر، ولم يتعرفوا على عقائد أخرى بلسان أصحابها أو من خلال كتاباتهم.

نصدر أحكامنا القاطعة على الآخرين بثقة. وندرب أطفالنا على تكرارها كما سبق لآبائنا أن دربونا. نصنع منها أناشيد وأغان، نهتف بها بحرارة وإيمان. نصفق لأنفسنا كلما ارتفعت أصوات الهتاف، ثم نختم عادة بتبادل الدعاء بأن يثبتنا الله. فكان لنا الثبات والجمود والتكلس.

أفهمونا أن هذه هي الوطنية وهذا هو الإيمان وذلك هو التدين. صنعنا من تحيزاتنا وقوالبنا الجامدة قوقعة محكمة تحجبنا عن الآخرين وعن ذواتنا، نعيش فيها بأمان ولا نستطيع تجاوزها لنرى موقعنا من العالم كي نخطط حركة ما أو تقدما من أي نوع.

ثبات.

مفاهيم الثنائيات الاستقطابية الحادة تزدهر مع الجهل والتعصب، ومع غياب روح التعدد والاختلاف والتنوع. لا يوجد في الواقع شعب أفضل، أو وطن أجمل، أو لغة أدق، أو عقيدة أصح. كلها شعوب وعقائد ولغات وأوطان لها خصائص ومميزات.

نحب أوطاننا لأننا ولدنا فيها وارتبطنا بها، كما يحب غيرنا أوطانهم لنفس السبب.

نفضل لغتنا لأننا نعبر بها عن أفكارنا ونكتب بها أدبنا وشعرنا، وهو نفس ما يفعله الآخرون بلغاتهم.

نقدس عقائدنا لأنها تقربنا من الله وتساعدنا على التواصل مع حقائق الكون الكبرى وهو ذات ما يفعله غيرنا من المؤمنين في بحثهم عن الله.

أتذكر هذا كلما قرأت تعليقا لغاضب أو رافض لما أكتب، عن قيم التعدد وقبول الآخرين واحترامهم. أبتسم وأقول لنفسي: معذور. لم يكن محظوظا مثلى بمعرفة ماريانا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved